Share

التضخم يحكم قبضته بقوة على الاقتصاد العالمي وثقة المصارف المركزية على المحك

فشلت عمليات رفع أسعار الفائدة في مواكبة ارتفاع معدلات التضخم
التضخم يحكم قبضته بقوة على الاقتصاد العالمي وثقة المصارف المركزية على المحك
التضخم يضر اليورو

نستفيق كل يوم على عنوان يعزز مخاوفنا لمستقبل اقتصادي غير وردي.. أعلى معدل تضخم منذ عقود؛ المصارف المركزية ترفع أسعار الفائدة بقوة؛ معنويات المستهلكين في أدنى مستوياتها؛ أسعار الطاقة تقترب من أعلى مستوياتها على الإطلاق…

كل هذه العناوين مرتبطة بالعنوان الأول الأساسي. فالتضخم بدّل المزاج الإقتصادي، ومن المحتمل جداً أن يعيد رسم مسار الاقتصادات العالمية في جميع أنحاء العالم لسنوات قادمة.

ولمحاربة هذا المرض الخبيث الذي يتفشى بسرعة، تلجأ المصارف المركزية في كل العالم، إلى “دواء” الفائدة على أمل احتوائه عبر رفع أسعار الإقراض المصرفي الأساسي. ولكن، يبدو حتى الآن، أن رفع أسعار الفائدة في الغالبية العظمى لدى الدول، لاسيما في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، لم يتمكن من مواكبة وتيرة ارتفاع التضخم.

لابد أولاً أن نشرح أسباب المراقبة الحثيثة من قبل المصارف المركزية لتحرك معدلات التضخم. فالمصارف المركزية تستهدف معدل التضخم في بلد ما كمقياس أساسي لسياستها النقدية، وذلك من أجل الحفاظ على استقرار النمو الاقتصادي واستقرار الأسعار. وإذا ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل أسرع من الهدف، تقوم المصارف المركزية بتشديد سياساتها النقدية عن طريق زيادة أسعار الفائدة أو تقييد المعروض النقدي، وهما سياسات نقدية انكماشية مصممة لخفض التضخم.

لقد بدأ ارتفاع الأسعار في العام 2021، لينفجر أكثر مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تسببت بأزمة أمن غذائي عالمي وبرفع سريع في أسعار النفط، وفي ظل التطورات الحاصلة في الصين للتخلص من تأثير كورونا.

هذا الأمر وضع المصارف المركزية في وضع حرج، في وقت سارعت المؤسسات الدولية إلى مراجعة توقعاتها انخفاضاً للنمو الاقتصادي بعد ملامح إيجابية عن بدء مسار التعافي الاقتصادي عقب تفشي فيروس كورونا.

المهم أن المصارف المركزية التي كانت تعيش في العام الماضي حالة إنكار لمدى ترسخ التضخم في الاقتصاد – لاسيما الاحتياطي الفدرالي الذي كان يعتبر على الدوام بأن التضخم “مؤقت” –  أقرت بأن التضخم يحكم قبضته بقوة على اقتصادات بلدانها وبأنه سيبقى طويلاً. فأعلنت حرباً ضروسة عليه مع استخدام الأدوات المتاحة لها “بقوة” للقضاء عليه، مهما كلّف الأمر ومهما كانت تداعياته على الاقتصاد. أي حتى وإن تسبب بركود اقتصادي مرحلي.

التضخم في الولايات المتحدة

 

الخطاب الذي ألقاه رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول خلال الندوة الاقتصادية السنوية التي انعقدت في جاكسون هول بولاية وايومنغ في أغسطس (آب) الماضي بحضور حكام وممثلي المصارف المركزية العالمية، شكّل خارطة طريق لمسار المرحلة المقبلة.

صحيح أن خطابه كان الأقصر له منذ العام 2010 حيث لم يتعدَ الدقائق الثماني، إلاّ أن الرسالة التي أراد إرسالها الى “كل من يعنيه الأمر” لا تحتمل الكثير من التفسيرات، إنما هي شديدة الوضوح: التضخم شديد الارتفاع يعني أن أسعار الفائدة يجب أن ترتفع أكثر ولن يتم خفضها بسرعة حتى الوصول الى هدف المصرف في معدل تضخم 2 في المئة.

لم يكن خطاب باول يحتاج الى آراء محللين حول المخاطر التي تحدق بالاقتصاد الأميركي وتالياً العالمي. فمجرد استعماله عبارة تضخم 46 مرة في ثماني دقائق يظهر خطورة هذه الآفة ومدى عمق انعكاسها على الاقتصادات.

وتظهر الارقام حول تطور التضخم، أن التضخم الأساسي، والذي هو محور اهتمام السلطات النقدية، لا يزال يرتفع رغم إقرار زيادات في أسعار الفائدة. وهذا يشير إلى أن الاحتياطي الفدرالي قد يضطر إلى رفع أسعار الفائدة لفترة أطول لترويض التضخم، مع مزيد من الألم لسوق الإسكان وسوق العمل على طول الطريق.

لكن حرب الاحتياطي الفدرالي على التضخم قد تؤدي إلى تراجع الاقتصاد الأميركي معها. مع العلم أن محضر اجتماع اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة عن يوليو (تموز) أشار بوضوح إلى مخاطر التشديد المفرط.

.. وماذا عن منطقة اليورو؟

 

الحال ليس أفضل أبداً في منطقة اليورو مع استمرار تحليق معدلات التضخم، وحيث يتوقع أن تواجه شتاء قارساً بالمعنى المجازي. وكانت أسعار الغاز والكهرباء ارتفعت بشكل صارخ، بعدما خفّضت روسيا صادرات الوقود إلى أوروبا رداً على العقوبات الغربية على حربها مع أوكرانيا، مما جعل الكثيرين يكافحون لدفع فواتير الطاقة فيما راحت المرافق تصارع مع أزمة السيولة.

تقول شركة “بلاك روك” في مذكرة إن أوروبا ستدخل في ركود حاد، حيث من المقرر أن يؤدي النقص في إمدادات الطاقة إلى ارتفاع التضخم إلى أعلى والتأثير بشكل كبير على الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا.

ويتوقع الخبراء أيضاً أن تضرب أوروبا أسوأ أزمة طاقة هذا الشتاء، حيث سيؤدي الطلب على التدفئة إلى مزيد من الضغط على نقص الإمدادات ويرفع الأسعار إلى الأعلى.

ورغم من أن الاتحاد الأوروبي قام بتكوين احتياطيات الغاز لأكثر من 80 في المئة من طاقته، إلا أن الكتلة المكونة من 27 دولة لا تزال تكافح لتقنين الإمدادات قبل الشتاء.

المصارف المركزية والثقة

 

كانت المصارف المركزية بحاجة الى أن تكون حاسمة في قراراتها ومعالجاتها. فهي أمضت عقوداً في بناء صدقيتها على “مهارات وفنون” مكافحة التضخم وبناء بيئة مستقرة من ناحية استقرار الأسعار على المستهلك. وبالتالي، قد تؤدي خسارتها هذه المعركة إلى زعزعة أسس السياسة النقدية الحديثة، سيما وأن من مهماتها الأساسية هي إبقاء معدلات التضخم تحت السيطرة، ووفق ما هو مستهدف.

هذا الأمر نبّه إليه المصرف المركزي الأوروبي. عضو المجلس التنفيذي للمصرف إيزابيل شنابل قالت إن المصارف المركزية في جميع أنحاء العالم مهددة بفقدان ثقة الجمهور، ويجب عليها الآن أن تتصرف بقوة لمكافحة التضخم، حتى لو دفع ذلك اقتصاداتها إلى الركود. وزادت أن استعادة الثقة والحفاظ عليها تكون بإعادة التضخم إلى الهدف بسرعة لأنه كلما طالت مدة بقاء التضخم مرتفعاً، زاد خطر فقدان الجمهور الثقة في تصميم المصارف المركزية وقدرتها على الحفاظ على القوة الشرائية.

لا شك أن المصارف المركزية كانت محط إشادات واسعة خلال فترة تفشي كورونا بسبب تجنيب بلدانها الكساد الناجم عن الفيروس من خلال مسارعتها إلى اتخاذ تدابير واجراءات ساعدت الناس والشركات على الصمود. لكن إخفاقها في التنبؤ بمدى خطورة ما آلت إليه الأمور اليوم، وسوء تقدير حجم ومدة أسوأ ارتفاع في التضخم منذ عقود، قلب الصورة رأساً على عقب. ففي العادة، يثق المستثمرون والأسواق في قدرة المصارف المركزية على إنقاذ الاقتصاد خلال أوقات الشدة، بل إنهم معتادون على أن تجد السياسة النقدية سبيلاً لإنقاذهم من الأزمات. وإذا فُقدت الثقة في المصارف المركزية، عندها سيتصرف الجميع بطرق تؤجج من الأزمة، وستكون عملية خفض التضخم أكثر تكلفة بحيث تؤدي الى ركود يبدو شديد الاحتمال في أوروبا.

في الختام، من الدروس الأساسية المستقاة من فترة ارتفاع التضخم في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أن التحرك ببطء شديد لكبح التضخم يؤدي إلى تشديد السياسة بتكلفة أكبر بكثير من أجل إعادة توقعات التضخم إلى ركيزتها المستهدفة، واستعادة صدقية السياسة النقدية. ومن المهم للمصارف المركزية أن تحرص على إبقاء هذه التجربة نصب أعينها وهي تتحسس طريقها الصعب.