تحصل المؤسّسات الكبيرة على حجمها الكبير أو المربح من خلال قيامها بالعديد من العمليّات الصّحيحة، إلّا أنّه في بعض الأحيان قد تؤدّي أبسط الأمور إلى تراجع تلك الشّركات.
يكمن الأمر في أنّ حجم الشّركة قد يعيق طريقها، إذ تبدأ الشّركات بالاعتقاد خطأً بأنّها تستطيع المغامرة في الأعمال غير الأساسيّة أو المجازفة في الأراضي الأجنبيّة. ويمكن ببساطة أن تفشل في التّحقّق من وحدات الأعمال الّتي تعاني باستمرار التّدفّقات النّقديّة السّلبيّة، أو تتجاهل التّعرّف على الأنظمة القديمة الّتي يجب إصلاحها أو بيعها.
للتّعمّق أكثر في هذه القضايا الحرجة، أجرت مجلة “إيكونومي ميدل إيست” مقابلةً مع مو فرزادي، شريك ورئيس خدمات إعادة هيكلة الأعمال في شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” الّتي تتمتّع بأكثر من 19 عامًا من الخبرة في تفويضات الاستشارات الماليّة المعقّدة الرّائدة في منطقة الشّرق الأوسط (12 عامًا في الشّرق الأوسط) وفي أوروبا.
دارت مناقشتُنا حول العوامل المسبّبة لضيق الشّركات من حيث المشكلات النّقديّة.
استهلّ مو كلامَه قائلًا: “من المهمّ أن ننظر إلى الوراء، إلى فترة ما قبل وباء كورونا، حين كانت الشّركات في منطقتنا تتعامل ليس مع أفضل ممارسات إدارة رأس المال وإدارة السّيولة وثقافة النّقد في فئتها.
لم تكن ثقافة النّقد أولويّةً آنذاك، إذ كانت معظم الشّركات تتطلّع إلى النّموّ وبلوغ القمّة، إضافةً إلى الأرباح والخسائر، بدلًا من التّركيز على مسائل السّيولة الّتي، إذا تمّ تجاهلها، قد تتحوّل إلى محرّكات تفشل الأعمال”.
الحاجة لثقافةٍ نقديّة
سلّطت جائحة كورونا الضّوء على السّيولة ورأس المال العامل وسلسلة التّوريد والتّوطين عندما واجهت الشّركات فجأةً توقّفًا في الطّلبات والإقبال.
أكّد مو أنّه “بعد انقضاء أولى فترات الوباء، اتّخذت الكثير من الشّركات الآن خطواتٍ لتحسين رأس مالها العامل ودعمه وتضمين ثقافة نقديّة”، وحذّر من “وجود فرص عديدة للتّطوّر عند المقارنة بالمناطق الأكثر نضجًا وبالأسواق”.
وقال مو إنّ التّحدّي الأكثر شيوعًا مع عملاء شركة” برايس ووترهاوس كوبرز”، والشّركات الكبرى أو الحكومات أو الـ GRE عادةً، هو أنّ هؤلاء ينظرون إلى كلّ من الأمور النّقديّة والسّيولة ورأس المال العامل على أنّها وظائف تقع على عاتق الفريق الماليّ أو المدير الماليّ.
فسّر مو قائلًا إنّ “هذه ليست هي الحال؛ فإذا كانت العمليّة أثناء نشاط تجاريّ، كشروط الدّفع مع الموردين، لا تتماشى مع دورة رأس المال العامل للشّركة، فهذا الإجراء سيضع هذه الأخيرة بالفعل في موقفٍ صعب.” وأوضح أنّ فريق الشّؤون الماليّة سيكون ببساطة متلقّيًا، وليس لاعبًا نشطًا، لنتائج صنع القرار الرّئيسة داخل العمليّات.
وأضاف مو: “إنّ تضمين الثّقافة النّقديّة، على هذا النّحو، في جميع نواحي الأعمال، من التّمويل حتّى النّاحية التّجاريّة من الأعمال والعمليّات، أمر بالغ الأهميّة، ومن شأنه إضافة قيمة إلى تلك الأعمال متى يتمّ تطبيقه على نحوٍ صحيح.”
التّمويل لأسباب خاطئة
تحتاج معظم الشّركات، منذ بداية نشأتها وحتّى نموّها وإلى ما بعد ذلك، إلى تمويلٍ أو ديونٍ خارجيّة، الّتي تُعدّ تاريخيًّا مصدرًا للأموال أرخصَ من الأسهم.
ففي بيئة الشّركة حيث الإدارة الصّحيحة، من المرجّح دائمًا استخدام التّمويل للأسباب الصّحيحة، سواء كان موجّهًا لتوسيع مصنع بنسبة 20 في المئة أخرى كجزء من النّفقات الرّأسماليّة، أو لبناء مكاتب جديدة للموظّفين.
وأضاف مو: “إلّا أنّ إحدى المشكلات الّتي نراها تتعلّق بعدم تطابق التّمويل مع الأصول، أي الاقتراض قصير الأجل لتمويل الأصول طويلة الأجل”.
وأوضح أنّ الشرّكات قد تلجأ إلى السّحب الماليّ المفرط وإلى تسهيلات رأس المال العامل بقيمة مليارات الدّراهم أو الرّيالات السّعوديّة الّتي تمّ استخدامها لشراء أصول طويلة الأجل كالعقارات.
وحذّر من أنّ هذه التّسهيلات قد تتمتّع بشروط سدادٍ باهظةِ الثّمن، إلّا أنّ المصارف لن تعترض على وجه الخصوص عندما تكون الشّركات قادرة على سداد التّسهيلات الائتمانيّة في الوقت المحدّد، لكنّ ذلك يصبح تحدّيًا كبيرًا عندما تتغيّر ظروف السّوق أو إذا انخفضت قيم الأصول الّتي استُخدمت تلك الأموال لشرائها.
عدم الالتزام بالعمل الأساسيّ
ثمّة مشكلة أخرى ترتبط بالشّركات الّتي تعاني عندما يتمّ استخدام التّمويل لشراء الأصول غير الأساسيّة، أو التّوسّع في مناطق جغرافيّة جديدة غير مألوفة.
وقال مو: “لي عميل في قطاع المقاولات الميكانيكيّة والكهربائيّة والسّباكة وكان يجني الكثير من المال، إلّا أنّه، ولسببٍ ما، قرّر تولّي دور المقاول الرّئيس وصاحب الرّواتب في السّعوديّة.” ثمّ أضاف قائلًا: “في البداية، طغت الإيجابيّة على المشاريع الّتي فاز بها، وكان هذا هو سبب انهيار الشّركة لافتقارها الخبرة العمليّة اللّازمة، ولعدم قدرتها على تلبية شروط العقود، ولمواجهتها تحديّاتٍ جغرافيّةً في المنطقة الجديدة الّتي كانت فيها “.
ضعف إدارة الشّركات
يكمن أحد الأسباب الشّائعة والرّئيسة لضائقة الأعمال وفشلها في ضعف حكومة الشّركات، حيث فشل الإدارة في التّعرّف على المشكلات وعلامات التّحذير في وقتٍ مبكر.
ووصف مو حكومة الشّركات بأنّها تعني “وجود مجلس إدارة مناسب ومؤهّل ليقوم بعد ذلك باختيار فريق إداريّ مؤهّل ومخوَّل لاتّخاذ قرارات العمل المناسبة. كما أنّ الأمر يتعلّق أيضًا بالحصول على التّسلسل الهرميّ الصّحيح بشأن من يمكنه التّوقيع واتّخاذ القرارات بطريقة سلسة”.
أضاف مو أنّه عمل مع الشّركات النّموذجيّة الّتي تديرها عائلات حيث يشغل أحد أفراد العائلة منصب رئيس مجلس الإدارة أو نائب الرّئيس، ولكن حيث يوجد هيكليّة مناسبة يترأّسها الرّئيس التّنفيذيّ المناسب والمدير الماليّ الّذي تمّ تعيينه في مناصب قياديّة استراتيجيّة.
وأكّد مو أنّ أيّ تكاسلٍ فيما يتعلّق بحوكمة الشّركات يؤدّي حتمًا إلى كارثة.
قطاعات الأعمال قوية و ضعيفة الأداء
قال مو إنّ شركة “برايس ووترهاوس كوبرز ميدل إيست” ستنشر تحليلًا، في أكتوبر/تشرين الأول، أكثر تفصيلًا إضافةً إلى نتائج مسحها السّنويّ لرأس المال العامل، مع مؤشّراتٍ أوّليّة تُظهر أنّه، مقارنةً بالمشكلات النّاتجة عن جائحة كورونا في عام 2021، ثمّة تحسّنٌ كبيرٌ في جانب رأس المال العامل والسّيولة في قطاعيْ التّجزئة والمستهلكين، إلى جانب النّقل والخدمات اللّوجستيّة.
وكشف مو قائلًا: “ومع ذلك، لا يزال قطاع البناء والمقاولات يواجه تحدّيات. وتكمن إحدى المشكلات في عدم حصول المقاولين على رواتبهم في الوقت المناسب من جانبِ أرباب العمل الّذين غالبًا ما يكونون ممثّلين بشركات ضخمة”.
وأضاف: “تتقلّص مرتبة المقاولين من القمة وتصبح هوامش ربحهم ضئيلةً للغاية وعادةً ما تتراوح بين 5-6 في المئة. كلّ ما يتطلّبه الأمر هو مشروع واحد مليء بالتّحدّيّات لتعويض أرباح العام الحاليّ أو للسّنوات الثّلاث الماضية”.
بحسب مو، فإنّ البناء هو عمل يجب إدارته بعنايةٍ شديدة، وإنّ المقاولين الإماراتيّين لا يزالون يواجهون تحديّاتٍ في هذا القطاع، حتّى إن الكثيرين في هذا المجال تعلّموا كيفيّة التّعامل مع تلك المواقف أو استباقها بطريقة مواتية، أو الانسحاب من القطاع لتجنّبها تمامًا.
عمَّ تبحث الشّركات؟ القيمة المستدامة
قال مو إنّ عملاء شركة “برايس ووترهاوس كوبرز”، وتحديدًا “C-suite” وأعضاء مجلس الإدارة والرّؤساء التّنفيذيّين، مهتمّون دائمًا بالحفاظ على عرض لقيمة طويلة الأمد وذلك من خلال طرح أسئلة حول ثلاثة مجالات:
- نموّ القيمة وتعزيزها
- المحافظة على القيمة
- التّمويل
من حيث نمو القيمة وتعزيزها، يسأل عملاء شركة “برايس ووترهاوس كوبرز”: أين يمكنني أن أنمو؟ هل يجب عليّ التّنويع في أعمالي الأساسيّة أم لا؟ ما هي استراتيجيّة التّنويع الخاصّة بي؟ وما الّذي يجب أن يكون منهجيًّا؟ وهل يمكنني الاستفادة من أسواقٍ وقطاعاتٍ جديدة؟
من حيث المحافظة على القيمة، تواجه هذه الشّركة أسئلةً كالآتية: ماذا أفعل بالأصول القديمة غير العاملة؟ كيف يمكنني إدارة هذه الأخيرة؟ هل أبيعها أم ألغيها؟ كيف يمكنني تطوير عمليّاتي الحاليّة؟ كيف يمكنني استخدام الأدوات الرّقميّة على نحوٍ أكثر كفاءة وفعاليّة؟
من حيث التّمويل، فإنّ الأسئلة الّتي يطرحها عملاء هذه الشّركة هي: كيف يمكنني استخدام رأس المال من منظور الأسهم والدّيون لإدارة رأس مالي العامل بشكل أكثر كفاءة؟ هل يجب عليّ الوصول إلى تجمّعات رأس المال خارج المنطقة الّتي قد تكون أكثر فعاليّة من حيث التّكلفة أو ذات قيودٍ أقلّ؟
قال مو: “إنّ كلّ موقف مليء بالتّحديّات ينشئ فرصةً للشرّكات للخروج من مشكلاتها بطريقةٍ أكثر سلاسة، وأكثر ربحيّة وأفضل إدارة”، وأضاف مفصّلًا: “ننصح عملاءنا بإجراء تقييمٍ كامل لأعمالهم الحاليّة بدءًا من ذروتها، إضافةً إلى النّظر في مجالات التّمويل والتّكلفة والأداء، مع مراجعةٍ استراتيجيّة من منظور النّموّ”.
قد تستغرق هذه العمليّة ما بين شهرين و6 أشهر بحسب حجم الشرّكة ومدى تحقّقها ممّا ذكر أعلاه.
أشار مو أيضًا إلى عناصر شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” الثّلاثة: الأسلوب، ورأس المال، والقدرة، مشدداً على ضرورة تفهّم كلّ شركة حقًا لهذه العناصر الثّلاثة، ما هو أسلوبها، وما هي متطلّبات رأس المال الخاصّة بها، وما هي القدرات الّتي تمتلكها أو تحتاج إليها.
قال مو: “تحتاج الشّركات إلى معرفة التّدفّق النّقديّ على مستوى الأصول الفرديّة والمستوى الموحّد لذلك، فضلًا عن مساهمتها في نموّ الأعمال، ومن ثمّ تحديد مجالات التّطوير كهيكل الشّركة ورأس المال والتّمويل ورأس المال العامل”.
أضاف قائلًا: “يتيح ذلك للشّركات فهمَ المجالات الّتي تريد التّركيز عليها استراتيجيًّا، وما هي متطلّبات رأس المال والتّمويل الخاصّة بها لتحقيق هذا النّموّ، وأين توجد المشاريع المدرّة للأموال، وما هي الأمور الّتي تسحب الأعمال من التّمويل ومن آفاق السّيولة”.
في بعض الأحيان، قال مو، إنّ الشّركة المربحة تتمتّع بعددٍ قليلٍ من وحدات الأعمال الّتي تولّد ضعفَيْ أو ثلاثة أضعاف السّيولة النّقديّة للمجموعة بأكملها على مستوى موحّد، بينما يتمّ التّخلّص من بقيّة التّدفّقات النّقديّة من قبل الشرّكات القديمة الّتي كانت ترصد أرباحًا قبل خصم نفقات الفوائد والضّرائب والإهلاك واستهلاك الدّين.
ونصح مو قائلًا: “إنّ المشاريع الأحدث في مرحلة الاستثمار دائمًا ما تحرق الأموال، وتحتاج إلى التّمويل وتقضي سنوات من الخسارة، إلّا أنّ المشاريع والشّركات القديمة تحتاج إلى فحصٍ دقيقٍ لاتّخاذ قرار بشأن إغلاقها أو إيقاف نشاطها أو بيعها”.
إعادة الهيكلة: مسألة وقت
قال مو إنّ جهود إعادة هيكلة الشّركة لا ينبغي أن تتمّ عندما تكون الشّركات في ورطة.
فنصح مو قائلًا: “لا ينبغي أن تكون إعادة الهيكلة إجراءً تفاعليًّا، إذ نعتقد أنّ الشّركات يجب أن تلجأ إلى ذلك كإجراء استباقيّ عندما تكون أعمالها سليمة تمامًا، ممّا يسمح لها باتّخاذ القرارات بوقت مبكر ومتابعة السّيطرة على عمليّاتها وأعمالها، ثمّ تحديد ما يجب فعله بالأصول وأوضاع الدّيون مع أصحاب المصلحة الخارجيّين”.
وأضاف مو: “إنّ الكثير من الشّركات المتعثّرة، الّتي تواجه مشكلاتٍ تتعلّق بالحوكمة أو لتّدفّق النّقديّ، تأتي إلينا في وقتٍ متأخّر متى تصبح الحلول والخيارات محدودة. فالقدوم المبكر إلينا يسمح باتّخاذ خياراتٍ أفضل كبيع الأصول غير الأساسيّة واستخدام الأموال لتحسين أجزاء أخرى من العمل “.
وأخيرًا، قال مو، الّذي يترأس فريقًا مكوّنًا من 40 محترفًا يعملون يوميًّا، إنّ شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” تدرك تمامًا طبيعة عمليّاتها الحسّاسة وتديرها دائمًا بطريقة لا تسبّب اضطرابًا للموظّفين أو للعمليّات اليوميّة.
وختم مو قائلًا: “من خلال معرفتنا الدّاخليّة بمكان وجود التّحديّات، وبصفتنا مقدّمي حلول للمساعدة على حلّ مشكلات الشّركات، غالبًا ما يكون الموظّفون داعمين جدًّا لأنشطتنا وللهدف النّهائيّ المتمثّل بتأمين استمراريّة الشّركة وازدهارها بشكلٍ عام”.