استهل القطاع المصرفي في دولة الإمارات عام 2025 بأداء قوي يعكس المستويات الربحية المرتفعة، والالتزام بمعايير ائتمانية صارمة، وتعزيز ثقة المستثمرين. فقد ارتفع صافي الدخل لدى أكبر 10 بنوك مدرجة بنسبة 8.4 في المئة على أساس فصلي ليصل إلى 22.2 مليار درهم إماراتي، في إنجاز بارز ضمن بيئة تتسم بانخفاض أسعار الفائدة وتزايد الضبابية الجيوسياسية. كما تشير نتائج الربع الأول إلى تحول نوعي ملحوظ؛ إذ لم تعد البنوك الإماراتية في موقع التعافي من الأزمات السابقة، بل شرعت في إعادة تشكيل نموذجها التشغيلي لتصبح كيانات مصرفية تتمتع بالمرونة الاستراتيجية والكفاءة التشغيلية والانضباط المالي، مما يؤهلها للتعامل بثقة مع تعقيدات وتحديات المرحلة المقبلة.
وشهدت مقاييس الربحية الرئيسية تحسناً ملحوظاً، حيث ارتفع العائد على حقوق المساهمين إلى 18.6 في المئة والعائد على الأصول إلى 2.1 في المئة. كما سجلت مخصصات انخفاض القيمة تراجعاً حاداً بنسبة 59.3 في المئة على أساس فصلي، بينما ارتفعت إيرادات الرسوم والعمولات بنسبة 18 في المئة على أساس فصلي، مما أسهم في تعويض جزئي لانخفاض صافي دخل الفوائد بنسبة 2.1 في المئة. في المقابل تراجعت المصروفات التشغيلية بنسبة ملحوظة بلغت 7.8 في المئة. وقد تمكنت البنوك من تحسين أدائها من خلال إدارة أكثر كفاءة للموارد، مما يعكس عمق النضج الهيكلي الذي وصل إليه القطاع. وكان من الجدير بالذكر أيضاً تراجع نسبة القروض المتعثرة إلى 3.2 في المئة، وهو أدنى مستوى لها في الدورات الأخيرة. وقد يكون هذا المؤشر من أبرز الدلائل على التحسن الحقيقي للقطاع المصرفي، غير أن التحدي يكمن في المحافظة على النسبة المنخفضة من القروض المتعثرة وسط تقلبات المشهد الاقتصادي.
أبرز محركات النمو: الإقراض والسيولة والرسوم
رسخ القطاع المصرفي في دولة الإمارات ركائزه خلال الربع الأول من عام 2025، مستفيداً من النمو المتسارع للودائع والتحسن الملحوظ في مستويات السيولة، إذ تسارع نمو القروض ليبلغ 3.6 في المئة على أساس فصلي، مدفوعاً بزيادة نسبتها 5.1 في المئة في التمويل للشركات والإقراض بالجملة. وفي المقابل، ارتفعت الودائع بنسبة 5.8 في المئة بفضل النمو الملحوظ في أرصدة الحسابات الجارية وحسابات التوفير بنسبة 7.6 في المئة، وهو ما يعكس ثقة المودعين واستقرار بيئة التمويل. وقد أدى ذلك إلى تراجع نسبة القروض إلى الودائع، لتبلغ 74.7 في المئة، مما يعزز احتياطيات السيولة ويزيد من مرونة التمويل.
وفي ظل تراجع أسعار الفائدة وما ترتب عليه من انخفاض في صافي الدخل، اتجهت البنوك إلى مصادر دخل أخرى مثل الرسوم والعمولات، التي ارتفع صافي إيراداتها بنسبة 18 في المئة في الربع الأول من العام، مما ساعد على تعويض انخفاض قدره 15 نقطة أساس في صافي هامش الفائدة الذي انخفض إلى 2.5 في المئة. ويسلط هذا النمو الضوء على التحول الواضح نحو إيرادات أكثر استقرارًا وموثوقية، في خطوة بالغة الأهمية في ظل الضغوط المتزايدة على دخل الفوائد التقليدي.
استقرار مدعوم بممارسات ائتمانية موثوقة
إن التحسّن المتواصل في جودة الأصول من أبرز المؤشرات الإيجابية التي ظهرت خلال الربع الأول من عام 2025، حيث انخفضت نسبة القروض المتعثرة إلى 3.2 في المئة، وتراجعت تكلفة المخاطر إلى 0.3 في المئة، بينما ارتفعت نسب التغطية البنكية لتصل إلى 110.5 في المئة، وسجّلت قروض المرحلة الأولى (القروض المصنفة ضمن فئة المخاطر المنخفضة) نمواً بنسبة 3.9 في المئة. ويشير هذا الأداء إلى تحسّن ملحوظ في الوضع الائتماني، كما قد يعكس توجه القطاع المصرفي في دولة الإمارات نحو اعتماد سياسة إقراض أكثر تحفظاً. ويُعزى هذا النمو إلى التركيز على المقترضين الأقل مخاطرة، وتحسين آليات استرداد القروض، وتطبيق سياسات مخصصات أكثر دقة وواقعية. ومع ذلك لا تزال القروض الموجهة لقطاعي العقارات والشركات الصغيرة والمتوسطة تشكل نسبة كبيرة من محافظ العديد من البنوك، مما يستدعي من المؤسسات المصرفية توخي الحذر والحفاظ على انضباط ائتماني فعلي يتجاوز الإجراءات الشكلية. من المتوقع أن تسهم معايير إدارة مخاطر الائتمان المُحدّثة، التي أقرّها مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي، أن تساهم في توفير مؤشرات إضافية من شأنها تعزيز القدرة على تقييم جودة الأصول بشكل مستمر.
التحول الرقمي
تتسارع وتيرة التحوّل الرقمي في القطاع المصرفي في دولة الإمارات بشكل ملحوظ، حيث تتجه البنوك إلى تعزيز اندماج التكنولوجيا في جوهر عملياتها التشغيلية، ليس فقط بهدف تحسين تجربة العملاء، بل أيضًا لتعزيز الكفاءة والامتثال، ورفع فعالية إدارة المخاطر. ويشكّل إطلاق بنك أبوظبي التجاري لمنصته الرقمية “ميداف” خطوة متقدمة نحو تبنّي نموذج مصرفي قائم على الذكاء الاصطناعي والتوسع الإقليمي والدولي. وعلى نحو مشابه، يأتي طرح بنك الإمارات دبي الوطني لخدمات مالية قائمة على الأصول المشفّرة، مما يعكس استعداد القطاع لاستكشاف فئات الأصول الناشئة والتكيّف مع واقع مالي جديد قيد التشكل. ولم تعد الأدوات المتقدمة، مثل تقنيات البلوك تشين للتحقق من المدفوعات، وخوارزميات الإقراض القائمة على الذكاء الاصطناعي، مجرّد اتجاهات ناشئة، بل أصبحت اليوم من ركائز البنية التحتية المصرفية الحديثة.
اقرأ أيضاً: إعادة تشكيل القوى العاملة في عصر الذكاء الاصطناعي: كيفية استباق توزيع المواهب في الشركات
الانضباط الائتماني: مفتاح التميّز في المستقبل
تواجه البنوك المزيد من التحديات التي تؤثّر على هوامش أرباحها، بسبب التخفيضات الأخيرة في أسعار الفائدة واستمرار التسهيلات النقدية. بينما تساهم زيادة إيرادات الرسوم وضبط التكاليف في مواجهة هذه الضغوطات، يبقى التحدي الحقيقي أمام البنوك في اختبار قدرتها على تحقيق انضباط ائتماني من حيث اختيار المقترضين وتوجيه التمويلات. ويشمل ذلك التركيز على العملاء المتميزين، ومراقبة القطاعات عالية المخاطر، والاستمرار في تعزيز ممارسات إدارة المخاطر الداخلية. كما يتطلب الأمر تجنّب التوسع السريع على حساب الأسس المالية السليمة.
وقد أظهر الربع الأول من العام مدى مرونة البنوك الإماراتية وقدرتها على تحقيق النتائج المرجوّة في بيئة سريعة التطور. ولمواصلة النجاح في الأرباع المقبلة، أصبح من الضروري على البنوك توخي الحذر في الممارسات الائتمانية، وتعزيز الحوكمة، والسعي نحو تحقيق المرونة المالية المستدامة. ويمكن لهذا النهج أن يعزز التوازن بين إدارة المخاطر ودعم النمو المستدام.
سام جيدومال هو المدير العام ورئيس الخدمات المالية في الشرق الأوسط لدى شركة ألفاريز آند مارسال.
انقر هنا للاطلاع على المزيد من مقالات الرأي.