هل يمكن أن نقول إن النظام المصرفي العالمي تجنب أزمة كبيرة كان يمكن أن تدمره، وذلك بعد تراجع احتمالات انتقال عدوى ما حصل مع 3 مصارف أميركية إلى بقية العالم؟ وهل من دروس يمكن أن نستقيها؟
لقد كان شهر مارس/آذار مفصلياً للقطاع المصرفي. كلعبة الدومينو، تداعت مصارف مع سقوط “سيليكون فالي” و”سيغنتشر” و”سيلفرغيت” في الولايات المتحدة لتنتقل تداعياتها بسرعة إلى “كريدي سويس” في سويسرا.
الأخبار السارة هي أن العدوى باتت وراءنا. لكن هذا لا يعني أبداً أن مهمة صانعي القرار قد انتهت بعد مسارعتهم إلى التدخل لمنع انتشار ما حصل مع هذه المصارف إلى مؤسسات مالية أخرى.
ما حصل لم يكن وليدة الساعة، بل جاء نتيجة مواطن ضعف مالي حاد تراكمت على مدار سنوات من انخفاض أسعار الفائدة وتراجع التقلبات ووفرة السيولة.
وكان سوء إدارة المخاطر وعدم تنويع الأعمال السبب الجذري لإخفاقات المصارف. لقد كوّنت ودائع كبيرة جداً خلال فترة وباء كورونا التي تخللتها عمليات واسعة للتحفيز النقدي معطوفة على معدلات فائدة قريبة من الصفر – استثمرت جزءاً كبيراً من محفظتها المضخمة من الودائع في سندات الخزانة ذات المخاطر المنخفضة، لكن من دون اتخاذ تدابير وقائية كافية، وهو ما عرّضها لما يعرف باسم مخاطر سعر الفائدة.
وفي المقلب الآخر، كانت هناك ثغرات كبيرة من قبل المسؤولين عن هذا القطاع في مجالي الإشراف والتنظيم. إذ تبين أن الجهات التنظيمية تغافلت في عام 2022 عن مشكلات مماثلة بعدما أرسلت تحذيرات إلى العديد من المصارف لتسوية أوضاعها من دون أن تتخذ الأخيرة أي إجراء. وهو ما يؤكد وجوب إعادة فرض قواعد المصارف الكبرى – بما في ذلك اختبارات الضغط المتكررة – على مصارف مثل “سيليكون فالي” التي تتراوح أًولها بين 100 و250 مليار دولار، وهي فئة أعفاها الكونغرس من مثل هذه الأعباء قبل 5 سنوات فقط.
إقرأ أيضاً: يو بي أس يستحوذ على كريدي سويس مقابل 3 مليار فرنك لإنهاء أزمة المصرف
ما حصل مؤخراً يشرّح بوضوح لا لبس فيه أهمية عامل الثقة بالقطاع المصرفي والمالي، فالانهيارات حصلت بعد مسارعة المودعين إلى سحب أموالهم لأنهم لم يعودوا يثقون بمصرفهم (المودعون سحبوا بما قيمته 42 مليار دولار من “سيليكون فالي” في يوم واحد). هو الخوف الذي ينتشر بسرعة من مصرف إلى آخر ، ومن شخص إلى آخر، وسرعان ما تتراكم قوائم الانتظار لسحب الأموال – سواء شخصياً أو عبر الإنترنت -، مما يفاقم المشكلة ويضع النظام بأكمله تحت ضغط.
مع العلم أن سحب المودعين لأموالهم كان بدأ منذ فترة، حيث آثروا التوجه إلى صناديق سوق المال ذات المخاطر المنخفضة والتي توفر لهم عوائد تفوق بكثير الفوائد التي يجنونها لدى المصارف. والدليل على ذلك، أن أصول صناديق سوق المال ارتفعت إلى مستويات قياسية في أقل من شهر (بين مارس/آذار ونيسان/أبريل)، بعدما تدفق إليها حوالي 280 مليار دولار.
لقد كان من الطبيعي أن تكون لهذه المشهدية أصداؤها على أرباح المصارف. فمعظم مصارف “وول ستريت” أعلنت عن أرباح ربع سنوية أقل وهي اليوم تواجه توقعات قاتمة لبقية العام، حيث كان من المتوقع أن تضر الأزمة المصرفية وتباطؤ الاقتصاد بربحية المصارف.
يحذر صندوق النقد الدولي من من مخاطر “حادة” على النظام المالي العالمي ومن تضرر النمو الاقتصادي العالمي نتيجة الاضطرابات المالية، ويرى أن المصارف الأضعف تواجه المزيد من الضغوط إذا استمرت المصارف المركزية في رفع أسعار الفائدة لسحق التضخم. ويلمح إلى أن التدهور الكبير في الأوضاع المالية قد يتكرر عندما يحاول المستثمرون القلقون اختبار “الحلقة الأضعف التالية” في النظام المالي مثلما فعلوا مع “كريدي سويس”.
ماذا عن السيولة؟
ما حصل يستدعي إعادة التفكير في الافتراضات الكامنة وراء نسبة تغطية السيولة Liquidity Coverage Ratio-LCR، ونسبة التمويل المستقرة الصافية (NSFR ) التي تم تحديدها من ضمن معايير “بازل 3” الصادرة عن لجنة بازل العالمية لمنظمي المصارف في أعقاب الأزمة المالية 2007-2009 عندما كان على دافعي الضرائب إنقاذ المقرضين.
ونسبة تغطية السيولة (100 في المئة) تهدف إلى ضمان أن المصارف لديها ما يكفي من النقد أو السندات عالية الجودة لتحمل ضغوط الأسواق لمدة شهر، بينما تسعى نسبة التمويل المستقرة الصافية إلى تقليل مخاطر التمويل على المدى الطويل.
مع الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة طبقت معايير “بازل” فقط على أكبر مصارفها، والتي لم تشمل مصرف “سيليكون فالي”. وهذا يعني أن المشكلة ليست من طرف المصارف فقط، إنما نتيجة تغاضي السلطات الإشرافية والرقابية عن الالتزام بمعايير التحوط والحذر، الأمر الذي هز أعمدة النظام المصرفي العالمي.
أزمة ائتمان؟
صحيح أن السلطات النقدية والمالية تحركت سريعاً منعاً لانتقال عدوى انهيار المصارف، واتخذت اجراءات صارمة، لكن لا يبدو أبداً أن هذا الأمر سيتوقف هنا. فمع مواصلة التشديد النقدي عبر رفع الفائدة، ستتشدد المصارف في معايير منح الائتمان خصوصاً وأنها تشهد استمراراً لسحب الودائع.
وهو ما كان عبّر عنه رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول حين قال إن انهيار مصرف “سيليكون فالي” واضطراب النظام المصرفي الذي أحدثه “من المرجح أن يؤدي إلى شروط ائتمانية أكثر صرامة للأسر والشركات، وهو ما سيؤثر بدوره على الاقتصاد”.
بمعنى أوضح، فإنه من خلال رفع سعر الفائدة القياسي الذي تستخدمه المصارف في إقراض الأموال لبعضها البعض، تجعل السياسة النقدية الأكثر تشدداً القروض الاستهلاكية والتجارية أكثر تكلفة ويصعب الحصول عليها.
يؤدي ذلك من الناحية النظرية إلى خفض الطلب على السلع والخدمات الممولة بالائتمان، وفي الوقت المناسب يؤدي أيضًا إلى خفض التضخم. لكن عندما يصبح الإقراض أكثر صعوبة وتكلفة، يتوسع عدد أقل من الشركات، وتفشل المزيد من المشاريع ويتباطأ التوظيف – مما يضع الأساس لتباطؤ اقتصادي.
والخوف من أن تنتقل هذه الدوامة إلى الإقراض العقاري في كل من أميركا وأوروبا. هذا الأمر يعززه الحديث عن أن المطورين في الولايات المتحدة قد يتخلفون عن سداد جزء كبير من قروض العقارات التجارية الأميركية البالغة 3.1 تريليونات دولار، والتي يقول “غولدمان ساكس” إنها معلقة.
في المقابل، حذر المصرف المركزي الأوروبي من أن تشكل الأموال التي تستثمر في العقارات التجارية تهديدًا للاستقرار المالي بعد أن نمت بشكل كبير خلال العقد الماضي. وقال إن صافي قيمة الأصول لصناديق الاستثمار العقاري تضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف إلى أكثر من تريليون يورو (1.1 تريليون دولار) في السنوات العشر الماضية، مما عزز ترابطها مع أسواق العقارات. وحذر من خطورة ذلك لأن المستثمرين لديهم فرص متكررة لسحب الأموال، في حين أن الأصول نفسها غير سائلة تماماً.
قد يكون الاحتياطي الفدرالي سعيداً بالتشدد الائتماني كونه يساعده في معركته لكبح التضخم المرتفع بعناد، إلا أنه يزيد أيضاً من مخاطر حدوث ركود هذا العام.
وننقل هنا الصورة المتشائمة التي رسمها الخبير الاقتصادي المعروف نوريال روبيني حين قال بما حرفيته: “نحن ندخل في حالة ركود وعدم استقرار مالي مع اضطرارنا إلى رفع أسعار الفائدة بسبب التضخم المرتفع للغاية، ولذلك فإن النتيجة التي نحصل عليها هي معضلة بثلاثة وجوه متناقضة: لا يمكننا تحقيق استقرار الأسعار والمحافظة على النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي في وقت واحد.. لذا، سيكون لدينا بالنهاية انهيار اقتصادي ومالي”.
أنقر هنا للمزيد من أخبار المصارف والتمويل.