لقد بات مسلّماً به أن المصارف المركزية في جميع أنحاء العالم قلّلت من شأن خطر التضخم عندما واصلت اعتماد أسعار فائدة منخفضة للغاية في ظل مشتريات ضخمة للأصول خلال العام 2021 وحتى في بدايات العام 2022.
ورغم أن التغيير الكبير في مسارها بدأ من منتصف العام 2022 بالإقدام على رفع ملحوظ في أسعار الفائدة – حيث رفع المصرف المركزي الأوروبي أسعار الفائدة بمقدار 375 نقطة أساس في أقل من عام ورفع الاحتياطي الفدرالي سعر الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس – لكن مهمة صانعي السياسات النقدية في العالم يبدو أنها كانت أصعب بكثير مما كانوا يعتقدونه بعدما تبين لهم أن التضخم ليس “مؤقتاً”. وهو المصطلح الشهير الذي استعمله رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول مقللاً من شأن تفشي التضخم والوصول إلى مرحلة قد تصعب معه السيطرة عليه.
هي الحال التي بلغها العالم اليوم.
ورغم أن الحديث عن تعليق للرفع من قبل بعض المصارف المركزية، جاء قرار مصرفي كندا واستراليا المركزيين ليشكل مفاجأة كبيرة للأسواق. فالأول اضطره التضخم العنيد إلى وضع حد لتوقف التشديد النقدي معلناً استئنافه زيادات أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس بعد توقف دام خمسة أشهر. والثاني، رفع أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إلى أعلى مستوى لها في 11 عاماً محذراً من أن المزيد من التشديد قد يكون مطلوبًا لضمان عودة التضخم إلى الهدف.
وفي الوقت الذي قرر الاحتياطي الفدرالي تعليقاً متشدداً أو ما يطلق عليه وفق المصطلحات الاقتصادية “hawkish pause”، كان يمهد الطريق لزيادات أخرى مرتقبة هذا العام بعدما أحبط المستثمرين بقوله إن بدء عكس مسار الزيادات لن يكون قبل عامين. في وقت أقر المصرف المركزي الأوروبي زيادة جديدة بمقدار 25 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة على الودائع إلى أعلى مستوياته منذ العام 2001.
عندما بدأ الاحتياطي الفدرالي في رفع أسعار الفائدة في مارس/آذار من العام 2022 بهدف وحيد هو إبطاء التضخم، بدأ الاقتصاديون وصانعو السياسات والمستثمرون يتحدثون عن هبوط ناعم للاقتصاد – أي عندما يبطئ الاقتصاد بما يكفي لكبح جماح الأسعار من دون التسبب في ارتفاع حاد في البطالة.
لكن بعد عام، وفي وقت كان التضخم ينخفض، كانت المناقشات لا تزال محتدمة حول ما إذا كان من المحتمل أن يهبط الاقتصاد الأميركي بأمان أم لا.
الجزء الأهم من المشكلة هو أن المصارف المركزية عموماً، وليس الاحتياطي الفدرالي تحديداً، غير قادرة على تحديد المدة التي يجب عليها الاستمرار بالمحافظة على سياستها النقدية المتشددة، وبالتالي تحديد الوقت المناسب لبدء مسار التخفيف.
ففي مايو/ أيار مثلاً، بلغ التضخم الأساسي في الولايات المتحدة – وهو مقياس التضخم المفضل لدى المصارف المركزية – 5.3 في المئة على أساس سنوي. صحيح أنه أقل بكثير من قراءة 7 في المئة في يونيو/حزيران 2022، لكنه لا يزال أكثر من ضعف هدف التضخم الرسمي لمجلس الاحتياطي الفدرالي البالغ 2 في المئة.
اقرأ أيضاً: أهم الاستراتيجيات المالية لمواجهة التضخم
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التضخم ينخفض بسرعات مختلفة بين منطقة وأخرى، ما يخلق تحديات مختلفة بين كل واحدة منها. ففي الولايات المتحدة، انخفض التضخم الى ما دون الـ5 في المئة بعدما كان بلغ ذروته التاريخية الى 9.1 في المئة. وفي منطقة اليورو مثلاً، تباطأ التضخم من ذروة بلغت 10.6 في المئة في أكتوبر/تشرين الاول الماضي إلى 6.1 في المئة في مايو/حزيران. وفي المملكة المتحدة، بلغ التضخم 8.7 في المئة في أبريل/نيسان، مما أدى إلى تأجيل احتمال أي نهاية سريعة لسلسلة رفع أسعار الفائدة لمصرف إنكلترا. وفي جميع أنحاء أميركا اللاتينية، بدأ التضخم في التراجع، لكن قادة المصارف المركزية قالوا إنهم يتحركون بحذر بعد أن رفعوا أسعار الفائدة إلى رقمين.
وبعد الاضطرابات المصرفية التي شهدتها الولايات المتحدة، وانتقلت الى سويسرا، واجهت المصارف المركزية خيارات صعبة بشأن الاستمرار في رفع أسعار الفائدة أو إيقافها مؤقتا أو عكسها.
إذ دفعت هذه الاضطرابات بالمصارف المركزية إلى التراجع بقوة أكبر، على اعتبار أن أزمة الائتمان التي تلت ذلك قد تدفع بالاقتصاد الأميركي وبالتالي العالمي، إلى الركود.
وماذا عن التضخم في دول الخليج؟
واجهت المصارف المركزية في 2022 ضغوطاً تضخمية دفعتها لتشديد سياساتها النقدية ورفع أسعار الفائدة تماشياً مع قرارات الاحتياطي الفدرالي.
لكن المشهد بات مختلفاً اليوم تماماً، بعدما أثبتت حكومات دول الخليج قدرتها على لجم ارتفاعات التضخم وبالتالي كبح تداعياته على اقتصاداتها.
وهو ما أقر به صندوق النقد الدولي الذي توقع أخيراً أن ينخفض معدل التضخم لمنطقة دول مجلس التعاون الخليجي خلال العام المقبل إلى 2.3 في المئة من 2.9 في المئة متوقعة خلال العام الجاري.
عن السعودية مثلاً، قال صندوق النقد الدولي إنه “رغم ازدهار النشاط الاقتصادي، لا يزال التضخم منخفضاً، كما يبدو أنه آخذ في التراجع حاليا”، في بيان في نهاية زيارة بعثته للمادة الرابعة إلى المملكة.
وقد حافظ معدل التضخم في السعودية على مستوياته في أبريل/نيسان، على أساس سنوي، عند 2.7 في المئة، أسوةً بالتغير السنوي في مارس/آذار.
وكان معدل التضخم في المملكة بلغ ذروته للشهور الـ12 الأخيرة في يناير/كانون الثاني، عندما سجّل ارتفاعاً بنسبة 3.4 في المئة على أساس سنوي، قبل أن تبدأ وتيرته بالتراجع في فبراير/شباط الماضي.
ويتوقع المصرف المركزي السعودي (ساما) أن يتراجع معدل التضخم في المملكة، بحسب تقريره عن الاستقرار المالي.
وفقاً لتقرير “ساما”، فإن التضخم في المملكة “كان منخفضاً نسبياً، ومن المتوقع أن يظل مستقراً”، مشيراً إلى أن استقرار السلع الأساسية والأغذية عالمياً، إضافةً إلى ارتفاع قيمة الدولار الأميركي، سيؤدي إلى الحد من الضغوط التصاعدية على السلع المستوردة في السعودية.
وفي الإمارات، يتوقع المصرف المركزي أن يسجل التضخم 3.2 في المئة في العام 2023. في وقت سجل التضخم في دبي أقل مستوياته منذ بداية العام الجاري، ليصل إلى 3.05 في المئة خلال مايو/أيار الماضي، مقارنة بأبريل/نيسان الذي سجل 3.27 في المئة.
تلفت شركة “بي دبليو سي” للخدمات في نشرة لها إلى جهود التنويع المستمرة والمرونة الاقتصادية التي تتمتع بها دول الخليج في ظل سعيها إلى تحقيق رؤاها الوطنية، موضحة أن هذه الرؤى الوطنية تشترك في التركيز على مجالات منها تنويع الاقتصاد غير النفطي وتحسين البنى التحتية والنهوض بعمليات التحول الرقمي وخلق بيئات عمل تنافسية ووضع أهداف توطين القوى العاملة في القطاع الخاص. وتضيف إن اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي أظهرت قدراً كبيراً من المرونة والصمود في مواجهة العديد من العقبات التي تشهدها الساحة العالمية، وتمكنت من خلال نمو المساهمات غير النفطية وزيادة التركيز على الاستدامة من قيادة أجندة التحول على نطاق واسع.
في الختام، لا شك أن مهمة المصارف المركزية في دول العالم قاطبة ليست بالسهلة أبداً، وهي باتت أشد صعوبة مع تراجع الثقة بأداء العديد من صانعي السياسات النقدية وهو ما من شأنه أن ينعكس سلباً على مسارات إعادة تنشيط الاقتصاد في هذه الدول.
انقر هنا للاطلاع على المزيد من الأخبار حول الاقتصاد.