معظم التوقعات تشير إلى أن ثلث اقتصادات العالم سيختبر حالة من الركود في العام 2023.
ولكن رغم توقّع تراجع الأداء الاقتصادي لغالبية الدول، إلا أنّ هذه التوقعات تستثني دول مجلس التعاون الخليجي التي سجلت أداء جيداً في العام 2022 مقارنة بالدول المتقدمة، ونجحت في مواجهة رياح التضخم المعاكسة.
فمعظم المنطقة شهدت انتعاشاً اقتصاديا مثيراً للإعجاب من المؤسسات المالية الدولية في 2022، حيث وفّر إنتاج الطاقة في الخليج الاستقرار خلال أزمة الطاقة العالمية.
وفق أرقام صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يتضاعف نمو الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي ليصل إلى 6.5 في المئة في عام 2022.
فيما كشف البنك الدولي في تقريره بشأن آفاق النمو الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط، أن اقتصادات دول الخليج سجلت أعلى معدل نمو سنوي منذ عقد بنهاية ديسمبر كانون الأول الماضي وبنسبة 5.7 في المئة، وذلك بفضل ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة الإنتاج.
لقد تمكنت دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها السعودية والإمارات والكويت، من زيادة إنتاجها وحجم صادراتها العام الماضي بأسرع وتيرة منذ نحو 10 سنوات، مع الإبقاء على معدلات التضخم عند مستويات أدنى بكثير من المتوسط العالمي.
ويبدو أن منطقة الخليج ستظل نقطة مضيئة نسبياً للاقتصاد العالمي في هذه المرحلة، رغم أزمة تكلفة المعيشة والحرب في أوكرانيا.
وفي ظل التركيز على الانفتاح والتنوع الاقتصادي الذي تنتهجه دول الخليج، فإن المنطقة في وضع جيد للعب دور ذي أهمية استراتيجية في النظام الاقتصادي العالمي المتطور.
لماذا؟
يقول منتدى الاقتصاد العالمي في ورقة بحثية نشرها أخيراً، إن الخليج شهد انتعاشاً قوياً بعد وباء كوفيد، حيث أظهرت السلطات إدارة ناجحة للأزمات من حيث تتبع العدوى وإدارة المخاطر وطرح اللقاحات. وسمحت هذه المرونة بانتعاش مثير للإعجاب في النشاط الاقتصادي.
كما أن دول الخليج في وضع جيد يؤهلها للقيام بدور محوري في تحول الطاقة العالمي، كونها تظهر ريادة في مجالات مثل اقتصاد الكربون الدائري، مع تعزيز الكفاءة عبر سلاسل قيمة النفط والغاز. لكن في الوقت نفسه، تتبنى الانتقال الى الطاقة النظيفة وأهداف صافي الصفر.
وشهدت منطقة الخليج استثمارات غير مسبوقة في مجال الطاقة الشمسية، بينما تبرز كفاءة الطاقة كمحرك رئيسي للإنتاجية.
ويوفر الهيدروجين الأخضر إمكانات تصديرية كبيرة، مما يسمح للخليج بالاستفادة من مساحاته ووفرة الإشعاع الشمسي لمواجهة الحرب العالمية ضد انبعاثات الكربون.
ومن شأن زيادة تكامل أسواق الطاقة داخل منطقة الخليج وخارجها أن تجعل صادرات الطاقة النظيفة ممكنة. وهذا من شأنه أن يسمح لبلدان المنطقة بتكرار دورها الاستراتيجي في النفط والغاز في توفير الطاقة بشكل عام.
إقرأ أيضاً: هل تستمر طفرة الاكتتابات العامة في دول مجلس التعاون الخليجي في 2023؟
التنويع الاقتصادي
كما أن زخم النمو في دول مجلس التعاون الخليجي يرتكز على رؤية استراتيجية تستمر في دفع تنويع الاقتصاد الإقليمي إلى مجالات جديدة.
ولتحقيق هذه الغاية، تم توجيه استثمارات كبيرة لسنوات في مجالات تتراوح من التعليم والبحث إلى اعتماد التكنولوجيا وريادة الأعمال المبتكرة. وهي تتسارع أكثر.
وتم إحراز تقدم كبير في صادرات الخدمات مثل اللوجستيات والتمويل والسياحة، فيما سلاسل القيمة تتوسع أيضًا في الصادرات غير النفطية لخلق فرص جديدة.
الشركات الأجنبية
وبحسب الورقة البحثية، فإن البنية التحتية المتطورة في الخليج تقترن بالانفتاح على التجارة من خلال الالتزام على مستوى المنطقة بالتعريفات المنخفضة، مدعومة بالتقدم المستمر في وضع ترتيبات تجارية مؤاتية في اتجاهات متعددة.
فالخليج يعد شريكاً رئيسياً لمنطقة التجارة الحرة العربية، لكنه أبرم أيضاً اتفاقيات تجارة حرة مع دول تتراوح من نيوزيلندا إلى سنغافورة.
كما يجري التفاوض على العديد من اتفاقيات التجارة الحرة الأخرى. على سبيل المثال، فإن الاتفاق بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في مراحله النهائية. كما أن كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي لديها العديد من الاتفاقيات التجارية الإضافية.
وعززت الاقتصادات الإقليمية على مر السنين روابطها الخارجية من خلال استثمارات كبيرة ومساعدات إنمائية. وكانت الودائع التي قدمتها المصارف المركزية الخليجية في نظيراتها في البلدان المتضررة من جائحة كوفيد أو الاضطرابات المرتبطة بالحرب الروسية – الأوكرانية مفيدة لحماية استقرار الاقتصاد الكلي في الاقتصادات الإقليمية المهمة مثل مصر.
لكن التركيز يتحول بشكل متزايد نحو الاستثمارات التجارية، بحسب ما جاء في الورقة. فصندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية، أعلن على سبيل المثال، إنشاء خمس شركات لدفع استثمارات بمليارات الدولارات في البحرين والعراق والأردن وعمان والسودان.
وتتمثل إحدى الفوائد العديدة لهذا التركيز الإقليمي المتزايد لتعبئة رأس المال، في إنشاء سلاسل القيمة التي يمكنها الاستفادة من موارد الاقتصادات المتعددة وتحقيق فوائد اقتصادية أوسع.
صندوق الاستثمارات السعودي
الاستثمار لتحسين القدرة الإنتاجية
بالنسبة لدول الخليج، يعتبر الاستثمار بشكل عام في صميم طموحاتها المستقبلية. ولعل أبرز مثال على هذا الموقف في استراتيجية الاستثمار الوطني الأخيرة للمملكة العربية السعودية، والتي تتوخى تعبئة أكثر من 27 تريليون ريال سعودي (7.1 تريليونات دولار) في الاقتصاد الوطني بحلول عام 2030، وبالتالي زيادة مساهمة الناتج المحلي الإجمالي للاستثمار من 22 في المئة في عام 2019 إلى 30 في المئة بحلول عام 2030.
وهناك برامج أخرى طموحة، سواء كانت مشاريع الإمارات الخمسين أو خطة الإنعاش الاقتصادي للبحرين مع 30 مليار دولار من المشاريع المخطط لها.
معلوم أن دول الخليج جميعها تلتزم بجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، والذي ظل يرتفع مرة أخرى في السنوات الأخيرة، حتى في ظل التحديات الاقتصادية العالمية، من إجمالي إقليمي قدره 14.5 مليار دولار في عام 2017 إلى 44.4 مليار دولار في عام 2021. وقد اجتذبت البحرين وحدها الاستثمار الأجنبي المباشر 921 مليون دولار في الربع الأول من عام 2022.
نشاط أسواق رأس المال
بالإضافة إلى ذلك، شهدت منطقة الخليج انتعاشاً حاداً في النشاط في أسواق رأس المال مع تزايد عدد العروض العامة الأولية.
وكانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عموماً تعج بنشاط الاكتتاب العام الأولي في العام 2022، حيث تم جمع 23.9 مليار دولار من العروض مقارنة بـ11.1 مليار دولار في 2021، وفق بيانات “ارنست أند يونغ”. وهي أعلى حصة بعد عام 2019 عندما طرحت شركة “أرامكو” السعودية للاكتتاب العام في طرح بقيمة 29 مليار دولار.
ومن حيث حجم المعاملات، برز عام 2022 كأفضل عام منذ عام 2008، حيث تم إجراء ما يصل إلى 46 أكتتاباً أولياً في المنطقة.
في المقابل، جمعت الإكتتابات العامة 179.5 مليار دولار في جميع أنحاء العالم في 2022، وبانخفاض 61 في المئة مقارنة بعام 2021.
وفي استعادة لصورة الإكتتابات العامة في 2022، كانت أكبر صفقة من حيث القيمة الاكتتاب العام لهيئة كهرباء ومياه دبي (ديوا) في الامارات في أبريل (نيسان) 2022، والذي جمع أكثر من 6 مليارات دولار مع وصول عدد الأسهم المتاحة في الطرح العام إلى 9 مليارات تمثل 18 في المئة من رأسمال الشركة. فيما أطلقت شركة البتروكيميائيات “بوروج” اكتتاباً عاماً أولياً جمع ملياري دولار خلال إدراجها في سوق دبي المالي.
وفي السعودية، بلغ عدد الإكتتابات الأولية خلال العام 2022 نحو 17 طرحاً مقابل 9 طروحات أولية خلال عام 2021 ليرتفع عددها بنسبة 89 في المئة. واستحوذ طرح شركة “أمريكانا” للمطاعم العالمية كأول إدراج مزدوج في السوق السعودية، على النصيب الأكبر من إجمالي الطروحات حيث تم طرح 2.53 ملياري سهم لتشكل نحو 87 في المئة من إجمالي حجم الطرح بالسوق خلال عام 2022.
وكان ثاني أعلى حصيلة اكتتاب لشركة “النهدي الطبية”، وجمعت أكبر حصيلة طرح بين الشركات المدرجة بإجمالي 5.1 مليارات ريال (1.36 مليار دولار).
ويبدو العام 2023 قوياً بالقدر نفسه الذي سجل في العام 2022. ومن المتوقع أن يؤدي الدعم الحكومي والاستقرار الاقتصادي إلى تعزيز ثقة المستثمرين في المنطقة، وهو ما من المتوقع أن يؤدي إلى تسريع وتيرة النشاط في أسواق رأس المال في المنطقة.
قوة عاملة شابة متعلمة
واللافت أن عنصر الشباب في منطقة الخليج يشكل مصدراً هاماً للقدرة التنافسية، إذ لا يزال متوسط عمر سكان المنطقة أقل من 30 عاماً.
كما تستمر الاستثمارات الضخمة في التعليم، بما في ذلك من خلال مؤسسات مثل جامعة الملك عبد الله للتكنولوجيا في المملكة العربية السعودية، والتي تعد واحدة من أسرع المؤسسات البحثية نمواً في العالم.
وتضاعف دول الخليج جهودها لاستقطاب المواهب الاستثنائية والاحتفاظ بها من خلال لوائح التأشيرات التي تعترف بقيمة رأس المال البشري في دفع عجلة التنمية الاقتصادية.
مؤتمر COP28
كل الأنظار تتجه إلى الإمارات العربية المتحدة بصفتها الدولة المضيفة لمؤتمر COP28 في وقت لاحق من هذا العام. وسينصب التركيز هذا العام على التقييم العالمي، والذي يهدف إلى تقييم التقدم الجماعي للبلدان نحو تحقيق أهداف اتفاقية باريس التي دخلت حيز التنفيذ عام 2016.
وقد أعلنت معظم دول مجلس التعاون الخليجي عن التزامات صفرية صافية وطريقة واحدة لقياس التقدم نحو تحقيق هذه الأهداف. وتبحث هذه الأهداف في التطور في كثافة الكربون في الاقتصاد، وهو مقياس لمقدار إنتاج ثاني أكسيد الكربون لتوليد دولار واحد من الناتج المحلي الإجمالي.
وذكرت شركة “برايس ووتر هاوس” إن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت جادة بشأن الجهود المبذولة لتخضير الاقتصاد، عارضة لبعض الإصلاحات التي طرأت في هذا المجال:
- الاستثمار المتسارع في الطاقة المتجددة: لدى المملكة العربية السعودية خطط طموحة لتطوير 58.7 جيغاواط من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030.
- خفض استهلاك الطاقة، وخصوصا من المنازل، لخفض مستويات كثافة الطاقة.وتتوقع “برايس ووتر هاوس” المزيد من الإصلاحات لتعريفات الطاقة والإعانات لتحفيز خفض استخدام الطاقة في المنطقة. وقالت إن استراتيجية الإمارات 2050 تهدف إلى زيادة مساهمة الطاقة النظيفة في مزيج الطاقة الإجمالي إلى 50 في المئة بحلول عام 2050، وبالتالي تقليل استخدام النفط. والهدف أيضًا هو زيادة كفاءة الاستهلاك للأفراد والشركات بنسبة 40 في المئة.
- التمويل المستدام هو عامل تمكين مهم لانتقال الطاقة. الإمارات العربية المتحدة لديها تصاميم لتصبح مركز المنطقة للتمويل المستدام. ويعتبر سوق أبوظبي العالمي أول مركز مالي دولي “محايد الكربون” في العالم. وبالشراكة مع AirCarbon Exchange وهي بورصة كربون عالمية مقرها سنغافورة، – أطلق سوق أبوظبي العالمي أول بورصة لتبادل الكربون وغرف مقاصة منظمة بالكامل في العالم.
ومن خلال التمويل والتركيز على تغير المناخ، يجب أن يكون عام 2023 هو العام الذي تعمل فيه دول الخليج على وضع استراتيجية مع نظرائها الإقليميين لرسم مسار منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو صافي الصفر.
أنقر هنا للاطلاع على المزيد حول أخبار الخليج