Share

إفلاسات مصارف.. كابوس سوء إدارة المخاطر يؤرق العالم

أسباب انهيار المصارف الأميركية ترتبط بسياسات الاحتياطي الفدرالي التشددية
إفلاسات مصارف.. كابوس سوء إدارة المخاطر يؤرق العالم
القصة باختصار بدأت مع إفلاسات طالت عدداً من المصارف الأميركية.

لماذا اتسعت انهيارات المصارف في الولايات المتحدة وانتشرت شظاياها إلى دول ومصارف أخرى؟ وهل ما حصل شبيه بالأزمة المالية العالمية في 2008؟

القصة باختصار بدأت مع إفلاسات طالت عدداً من المصارف الأميركية، لتتمدد ارتداداتها إلى مصارف خارج الرقعة الأميركية، وتحديداً الاوروبية.

ففي خلال أسبوع واحد، أعلنت ثلاثة مصارف أميركية كبرى إفلاسها، وهي “سيغنتشر” و”سيلفرغيت كابيتال بنك” و”سيليكون فالي” الذي يتخذ من كاليفورنيا مقراً له والذي عُدّ بمثابة أكبر فشل مصرفي منذ الأزمة المالية لعام 2008 وأرسل موجات صدمة عبر الأسواق المالية العالمية.

وما أن كرت سبحة الافلاسات، حتى انطلقت التكهنات بأن التاريخ يعيد نفسه وأزمة 2008 على وشك أن تخيم آثارها على العالم أجمع قريباً. هذه التكهنات انطلقت من الوضع الذي بلغه مصرف “كريدي سويس” السويسري العريق والذي احتاج الى خطة إنقاذ حكومية منعاً لانهياره.

نستعيد بالذاكرة ما حصل في العام 2008. في ذلك العام، وتحديداً في سبتمر/أيلول منه، اندلعت الشرارة بإفلاس مصرف “ليمان براذرز” الأميركي لتنفجر أزمة مصرفية ومالية اعتبُرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير في 1929.

بدأت الأزمة أولاً بالولايات المتحدة، ثم امتدت إلى دول العالم. ووصل عدد المصارف التي انهارت في الولايات المتحدة خلال العام 2008 إلى 19 مصرفاً، كما توقع آنذاك المزيد من الانهيارات الجديدة بين المصارف الأميركية البالغ عددها 8400 مصرف.

إقرأ أيضاً: هل نشهد على انهيار قادم لهذين المصرفين في أميركا؟

فهل المشهد نفسه بصيغة محدثة؟

 

ما نراه الآن ليس الجزء الثاني من الأزمة المالية العالمية. حينها تم وضع نظام تنظيمي كنتيجة مباشرة للأزمة، صنّف المصارف الاستثمارية الكبرى في العالم على أنها “أكبر من أن تفشل”، مما يعني أنها مجبرة على الاحتفاظ بمبالغ ضخمة من النقد أو احتياطيات آمنة مماثلة للبقاء على قيد الحياة في المستقبل المالي.

اليوم، كلنا يعلم أسباب انهيار المصارف الأميركية والتي ترتبط بشكل وثيق بسياسات الاحتياطي الفدرالي التشددية رفع معدلات الفائدة على أمل كبح جماح التضخم الذي بلغ مستويات عالية جداً.

فالمصارف الأميركية – التي كوّنت ودائع كبيرة جداً خلال فترة وباء كورونا التي تخللتها عمليات واسعة للتحفيز النقدي معطوفة عل معدلات فائدة قريبة من الصفر – استثمرت جزءاً كبيراً من محفظتها المضخمة من الودائع في سندات الخزانة ذات المخاطر المنخفضة، لكن من دون اتخاذ تدابير وقائية كافية، وهو ما عرّضها لما يعرف باسم مخاطر سعر الفائدة، حال “سيليكون فالي”.

أي انه مع ارتفاع معدلات الفائدة، تآكلت قيمة هذه السندات طويلة الأجل نتيجة تراجع أسعار السندات التي تربطها علاقة عكسية بمعدلات الفائدة، ما كبدها خسائر كبيرة فاقمتها عمليات السحب الكبيرة من قبل المودعين.

وانتقلت أزمة المصارف هذه الى أوروبا وتحديداً الى سويسرا، حيث شهد مصرف “كريدي سويس” انتكاسة كبيرة وتراجعاً في أسهمه دفعت الى تدخل السلطات لانقاذه.

ورغم أن الصعوبات التى واجهها المصرف السويسىرى اختلفت عن متاعب “سيليكون فالي” و”سيغنتشر” ، إلا أن ما حصل مع “كريدى سويس” زاد من الشعور بالخوف بشأن الاقتصاد بشكل عام.

Stone bank building sinking in stormy water, businessman watching.

السؤال الكبير هو لماذا حصل ذلك؟

 

سبب أساسي دفع باتجاه هذ الأزمة، وهو سوء إدارة مخاطر الأصول والخصوم من قبل المسؤولين عن المصارف في ظل تراجع سريع في ثقة المودعين.

لقد تحمّل مصرف “سيليكون فالي” خصوصاً الكثير من المخاطر، لكنه في المقابل لم يكن يخضع للقواعد التنظيمية اللازمة ولمعايير “بازل 3″ – ومنها اختبار التحمل – على غرار بقية المصارف الأميركية الكبرى، الأمر الذي تسبب في حدوث الأزمة الأخيرة.

فالرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب قال إن الآلاف من المصارف الأميركية الإقليمية المتوسطة المستوى لن تضطر إلى الامتثال لهذه القواعد، وذلك حين أقر في العام 2018 قانوناً حول تحرير المصارف أعفى فيه المصارف الصغيرة من اللوائح الصارمة، وخفّف القواعد التي يتعين على المصارف الكبرى اتباعها. ورفع القانون حد الأصول لـ”المؤسسات المالية المهمة” من 50 مليار دولار إلى 250 مليار دولار.

وبحسب القانون الذي وقعه ترامب، لم يكن “سيليكون فالي” خاضعاً للوائح الأكثر صرامة التي تنطبق على المصارف المصنفة الكبرى، لأنه لم يكن مُصنفاً كمؤسسة مالية مهمة.

بمعنى آخر، فإن “سيليكون فالي” حصل على العنان لاستثمار مليارات الدولارات من ودائعه الخاصة في سندات الخزانة الأميركية من دون أي نوع من “التأمين” لحماية أموال العملاء إذا تحركت الأسواق ضد المصرف.

وكانت معايير “بازل 3” ألزمت المصارف إثر الأزمة المالية عام 2008، بالإبقاء على 100 في المئة لنسبة تغطية السيولة. وهو شرط يوجب على المؤسسات المالية التي تحمل السندات الاحتفاظ بكمية من الأصول السائلة عالية الجودة تكفي لتمويل التدفقات النقدية الخارجة لمدة 30 يوماً. ومن بين الأصول التي يمكن للمصارف الحفاظ عليها من أجل بيعها بسرعة وتأمين السيولة، هي سندات الخزانة.

ومع رفع الاحتياطي الفدرالي الفائدة، باستمرار منذ العام الماضي، باتت للسندات القديمة ذات الأجل الأطول، قيمة أقلّ من الجديدة، وهو ما كبّد حاملي السندات القديمة خسائر جمّة. وهذا ما حصل.

وقد أدت تداعيات انهيار “سيليكون فالي” إلى زيادة مخاطر الائتمان في جميع أنحاء العالم، حيث تخوف المستثمرون من المزيد من الإخفاقات في أسواق ديون الشركات.

كما يمكن توصيف ما حصل بأنه خطر أخلاقي (Moral Hazard). وهو في الاقتصاد يشير إلى الحالة التي يكون فيها لدى المصرف أو المستثمر حافز لزيادة المخاطر المالية لأنهم معزولون بطريقة ما عن العواقب المحتملة للمخاطر.

ويؤكد العديد من الاقتصاديين أن المخاطر الأخلاقية في الأسواق المالية تزيد من مخاطر النشاط الاقتصادي الضار. ومن ناحية أخرى ، يقول الخبراء إن الحفاظ على حوافز للحد من المخاطر المالية يمكن أن يساعد الأسواق على تجنب المجازفة المفرطة والمتهورة.

اختبارات التحمل

 

وانطلاقاً من ذلك، ارتفع جرس التحذير والانذار من مغبة استمرار الاحتياطي الفدرالي، ومعه المصارف المركزية الاخرى، في رفع الفوائد على النحو الحاصل من دون التحسب لتداعيات من هذا النوع. مع العلم أن السياسة التشددية التي يعتمدها الاحتياطي الفدرالي كبّدت المصارف الأميركية منذ نهاية العام الماضي، خسائر غير محققة من الأصول التي فقدت قيمتها ولم يتم بيعها بعد، بلغت قيمتها 620 مليار دولار، وفقا لبيانات “المؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع”.

كل ذلك يضع المصارف المركزية والهيئات التنظيمية والرقابية تحت مجهر المحاسبة، لجهة التحوط للأخطار وتجنب الأسوأ قبل حدوثه. كما تؤكد أنه لا يجب التهاون أبداً في مسالة تطبيق القوانين المرتبطة بالمصارف، وأهمها، إلزامها باجراء اختبارات التحمل (stress test) للتاكد من مدى قدرتها على تحمل الصدمات.

فاختبارات التحمل أو اختبارات الضغط تعتبر أداة هامة لإدارة المخاطر من قبل المصارف كجزء من إدارتها الشاملة للمخاطر، ومن أهم أدوات السلامة الاحترازية على المستوى الكلي والجزئي في القطاع المصرفي، كونها توفر صورة عما ستكون عليه أوضاع المصارف في ظل سيناريوهات صعبة لكن ممكنة الحدوث. وهذا يتيح للسلطات الرقابية والمديرين تقييم قدرات المصارف على مقاومة الصدمات الاقتصادية والمالية واتخاذ التدابير اللازمة كتدعيم رأس المال وتعديل الإجراءات التشغيلية ووضع خطط طوارئ متقدمة في حالة وجود مخاطر في الأفق… وإدارة المخاطر هي ألف باء فترات عدم اليقين.

أنقر هنا للمزيد حول أخبار المصارف والتمويل.