أرقام التضخم الأخيرة الصادرة في الولايات المتحدة بأقل من المتوقع، كانت لها انعكاساتها الإيجابية على الأسواق. فمؤشرات بلوغ التضخم ذروته والتي تعني أن الاحتياطي الفدرالي سيكون أقل تشدداً في اجتماعه المقبل، دفعت المستثمرين من جديد الى الأسهم والسندات.
بحسب “بلومبرغ”، شهدت الأسهم الاميركية تدفقات داخلة بلغت 11 مليار دولار، وهي الأكبر في ثمانية أسابيع. كما سجلت صناديق النمو الحساسة للمعدلات أكبر تدفق منذ ديسمبر/كانون الأول، في حين سحبت الأسهم المالية النقد للأسبوع الثاني على التوالي، مما يمثل انعكاساً بعد 18 أسبوعاً من التدفقات الخارجة، بحسب البيانات. وشهدت السندات العالمية تدفقات داخلة بلغت 11.7 مليار دولار، بينما تم سحب 4.3 مليارات دولار من النقد.
لقد بلغ معدل التضخم الأميركي 8.5 في المئة في يوليو/تموز الماضي- فيما التقديرات كانت تشير الى نسبة 8.7 في المئة. وهو ما يؤشر على أن اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة لن تقدم في اجتماعها المقبل في العشرين من سبتمبر/أيلول المقبل على زيادة بمقدار 75 نقطة أساس، بل أن الـ50 نقطة أساس باتت الاكثر ترجيحاً.
ولكن هل يمكن القول إن مخاطر استمرار تنامي التضخم والركود المحتمل اختفت مع هذه البيانات؟
الإشارات متضاربة جداً.
صحيح أن بيانات التضخم الأميركية أظهرت تباطؤًا معتدلاً، لكن التضخم لا يزال مرتفعاً للغاية وأعلى بكثير من المستهدف وهو 2 في المئة، بحيث لن يستطيع الاحتياطي الفدرالي – والمصارف المركزية الأخرى التي تتبعه بالطبع – فرملة الزيادات المخطط لها. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، شهدت الولايات المتحدة ركوداً تقنياً – يُعرف بأنه ربعين متتاليين من النمو السلبي – لكن ظروف الاقتصاد الكلي الشاملة لا تزال قوية. تقرير الوظائف أظهر ارتفاعاً بمقدار 528 ألفاً في يوليو/تموز، أو بأكثر من ضعف توقعات السوق. كما أظهر متتبع نمو الأجور التابع لمجلس الاحتياطي الفدرالي في أتلانتا، أن متوسط الأجور بالساعة ارتفع بنسبة 7.5 في المئة في الأشهر الـ12 الماضية. وبالتالي، فإن بيانات سوق العمل القوي تؤكد أن المستثمرين لا يزالون يتوقعون أن يواصل الاحتياطي الفدرالي تشدده لبقية هذا العام، وإن بوتيرة أخف.
لقد كان رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول واضحاً حين قال إن خطر استمرار التضخم أكبر من خطر الركود. وقال إن “النمو وسوق العمل بحاجة إلى التباطؤ”. وهذا يعني بوضوح أن التباطؤ قد يؤدي إلى إبطاء وتيرة تشديد السياسة النقدية، لكن لن يوقفها أو يعكسها في أي وقت قريب.
وفي مسح من “بنك أوف أميركا” صدر الجمعة، يرى مديرو صناديق ومحللون بأن التحول في السياسة النقدية لن يحدث إلا في 2024 أو بعدها.
على أي حال، يترقب المستثمرون ما سيقوله الاحتياطي الفدرالي عن الاقتصاد في اجتماعه المقبل. وسيتابع الطرفان مدى تأثير التضخم على الإنفاق. إذ سيصدر مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي قراءة نفقات الاستهلاك الشخصي لشهر يوليو/تموز في 26 أغسطس/آب. ويقيس مؤشر أسعار المستهلك ونفقات الإنفاق الاستهلاكي التضخم على أساس تسعير سلة من السلع.
السلتان مختلفتان، والصيغ المستخدمة لحساب كل مقياس ليست هي نفسها. فحساب مؤشر أسعار المستهلك يعتمد على دراسة استقصائية للسلع التي يشتريها المستهلكو ، في حين يعتمد مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي على مسح لشركات السلع التي تبيعها.
الأمر سيّان في أوروبا والمملكة المتحدة
في أوروبا والمملكة المتحدة ، أدت الصدمة من حرب أوكرانيا إلى زيادة التضخم، مما دفع كلاً من المصرف المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا إلى رفع أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس مؤخراً
وسجل تضخم مؤشر أسعار المستهلكين في منطقة اليورو، رقماً قياسياً آخر في يوليو/تموز عند 8.9 في المئة على أساس سنوي، مدفوعاً بتضخم السلع الغذائية والسلع الأساسية. كانت قفزة 0.3 نقطة في تضخم مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي علامة على اتساع الضغوط التضخمية.
وكان رفع الفائدة من قبل المصرف المركزي الأوروبي هو الأول منذ 11 عاماً. جادل المصرف بأن هذه كانت خطوة أولية من شأنها أن تسمح له بالانتقال إلى نهج “كل اجتماع لحاله” بشأن أسعار السياسة. فيما كرر مصرف إنكلترا أنه مستعد للتصرف “بقوة إذا لزم الأمر” من خلال الاستمرار في رفع أسعار الفائدة إذا استمرت الضغوط التضخمية ، على الرغم من الركود.
وبينما كان نمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو أقوى من المتوقع عند 2.8 في المئة سنويًا في الربع الثاني بفضل رفع القيود المتعلقة بجائخة كورونا، لا تزال البيانات عالية التردد تشير إلى بعض الضعف.
وأظهرت بيانات المفوضية الأوروبية انخفاض ثقة المستهلك والأعمال إلى أدنى مستوياتها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وانخفض مؤشر Ifo الألماني إلى أدنى مستوى له في 25 عامًا في يوليو/تموز بسبب مخاوف من أن يؤثر انقطاع إمدادات الغاز على الاقتصاد.
كل ذلك يعني أن المصرف المركزي الأوروبي سيواصل سياسته المتشددة حتى عام 2023، رغم أن مهمته صعبة بشكل خاص، نظراً لأن السياسة النقدية ليس لها تأثير يُذكر على أسعار الطاقة، بصفتها المحرك الرئيسي للتضخم في أوروبا، والتي تصاعدت عقب الحرب الروسية – الأوكرانية.
إن محاربة آفة التضخم هي الهم الأول والأخير لكل صناع السياسات النقدية في العالم. فماذا عن انعكاسات هذا الأمر على الركود وخصوصاً في أميركا؟ يقول رئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج محمد العريان إن شبح الركود في الولايات المتحدة لم يتوارَ بعد. “لا يزال لدى المصرف المركزي (الأميركي) كثير من العمل الذي يتعين عليه القيام به للوصول بأسعار الفائدة إلى مستوى محايد وما بعد ذلك، بعد أن سمح للتضخم بالترسخ في النظام”.