أكد نائب الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) منير تابت أن الاقتصادات العربية قادرة على أن “تثبت جذورها وتطلق أجنحتها”، مجدداً الدعوة إلى ضرورة الاستعجال في التنوع الاقتصادي ليشمل قطاعات منتجة خالقة لفرص عمل مستدام وكريم لجيل الشباب.
وقال تابت في حديث مع “إيكونومي ميدل إيست”، إن مواجهة جائحة كورونا في المنطقة العربية كانت دون مستوى التحدي “مع أن بعض الدول المتمكنة مالياً كان أداؤها أفضل”.
وتوقع نمواً اقتصادياً في العالم العربي بمعدل 3.2 في المئة في العام 2022، و”هذا المعدل قد يتغير نحو الافضل في حال ارتفاع أسعار النفط التي تشكل عاملاً مهما ومؤثراً في توجه معدل النمو في الاقتصادات العربية الأكبر”.
أَضاف “بالطبع الدول التي لديها إمكانيات مادية ولها اقتصادات قوية مرتبطة بالاقتصاد العالمي ارتباطاً صحياً ستتعافى قبل غيرها وهذا ينطبق على معظم دول الخليج.
في الاتي نص الحوار الذي أجرته “إيكونومي ميدل إيست” مع تابت:
يُعقد المنتدى العربي للتنمية المستدامة لعام 2022 في مارس/آذار تحت عنوان “التعافي والمنعة”. إنه العنوان الأهم للاقتصادات العالمية والعربية. كيف تقيّمون عملية التعافي التي قامت بها الدول المنضوية في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا؟
مما لا شك فيه أن التحدي الاكبر للاقتصادات العربية، كما هو الحال لمعظم اقتصادات العالم، هو إدارة المرحلة الانتقالية من جائحة كورونا الى مرحلة جديدة ولنسمّها “مرحلة ما بعد الكورونا”. يتكلم الكثيرون عن “إعادة الإعمار نحو الأفضل” أو في الإنكليزية Building Back Better ولكني أفضّل اعتماد مبدأ “بناءٌ أفضل نحو الأمام” أو في الإنكليزية Building Forward Better.
والفرق بين الاثنين واضح. فالأول يعتبر انه إذا أعدنا بناء عجلة الاقتصاد لِما كانت عليه قبل الجائحة، ولكن بطريقة أفضل، سيخرج اقتصادنا ومجتمعنا من أزمته بشكل أفضل. فيما الإطار التفكيري الثاني يعتبر أن الازمة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن جائحة كورونا أضاءت على خلل بنيوي في اقتصاداتنا، ومجتمعاتنا، وبيئتنا الطبيعية.
وهذا الخلل يتراكم منذ عقود وهو مسؤول بشكل كبير عن أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية المتكررة، والتي، بلا شك، تفاقمت مع الجائحة حيث انه لم يسلم أي بُعد اقتصادي، اجتماعي او بيئي منها. ويتحدث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن الحاجة الى عقد اجتماعي جديد على المستويين العالمي والوطني.
وفي رأيي، اننا نستطيع ان نجد الأسس البنيوية لهذا العقد الاجتماعي الجديد في أجندة 2030 وأهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها معظم دول العالم بما فيها الدول العربية. وعليه فان استراتيجيات التعافي التي تعتمد اهداف التنمية المستدامة تستجيب بشكل أفضل لمعيار “البناء الأفضل نحو الامام” ومن الارجح ان تكون نتيجة هذا التعافي اكثر استدامة وعدالة وشمولية فلا تترك احداً من المجتمع خلفها دون ان يستفيد من نتائجها الإيجابية عملاً بمبدأ “Leave No One Behind”.
عمليات التعافي
بالعودة الى عمليات التعافي للدول المنضوية في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، لا بد من الإشادة بالمستوى المرتفع للإرادة السياسية والادارية للدول العربية في محاولاتها لمواجهة الجائحة ومعالجة تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى البيئية. فالدول العربية مجتمعة استثمرت حوالي 95 مليار دولار من الحزم التحفيزية التي توزعت على منح وقروض وطالت معظم فئات المجتمع والمؤسسات العامة والخاصة من دعم اقتصادي واجتماعي وكل دولة حسب امكاناتها المالية.
ولكن معدل هذا الاستثمار لم يتعدّ الأربعة في المئة من الناتج المحلي، وهو مستوى متدنٍ جداً مقارنة مع معدل الاستثمار الأوروبي في مواجهة الجائحة وتبعاتها والذي تعدى الـ22 في المئة من الناتج المحلي الأوروبي. وهذا يدل على انه على رغم الإرادة السياسية في منطقة دول الاسكوا، لم تكن الموارد المالية على المستوى المطلوب لمواجهة الجائحة، او على أقله كانت هذه الموارد أقل بكثير من مستوى استثمارات المناطق الأخرى.
ففي الواقع المنطقة العربية كانت من المناطق الأقل استثماراً في العالم بعد أفريقيا. فمن الواضح ان مواجهة الجائحة في المنطقة العربية كانت دون مستوى التحدي مع ان بعض الدول المتمكنة مالياً كان أداؤها أفضل. ولعل المؤشر الأكثر دلالة هو مستوى التلقيح. ففي العالم العربي تعدت نسبة التلقيح ضد وباء كورونا مستوى الـ٦٠ في المئة في دول الخليج، ولكنها لم تتجاوز الـ3 في المئة في الدول الاقل نمواً.
هل أنتم متفائلون سيما وأن صندوق النقد الدولي راجع تقديراته للنمو وتوقع أن يكون مساره أبطأ مما توقعه سابقاً؟
كانت مستويات النمو في الدول العربية بمعدل 3 في المئة قبل الأزمة، مع استثناءات إيجابية مثل مصر (5.5 في المئة) وسلبية مثل لبنان (-3 في المئة). لكنها تقلصت خلال الجائحة بمعدل (-6.2 في المئة) في المنطقة. وهنا ايضاً شهدنا استثناءات سلبية غير مسبوقة، بسبب تراكم الازمات (لبنان -37 في المئة) او بسبب الصراعات المسلحة (ليبيا 067.6 في المئة).
وتتوقع الاسكوا نمواً اقتصادياً في العالم العربي بمعدل 3.2 في المئة في العام 2022. وهذا المعدل قد يتغير نحو الافضل في حال ارتفاع أسعار النفط التي تشكل عاملاً مهما ومؤثراً في توجه معدل النمو في الاقتصادات العربية الأكبر. ولكن توقعاتنا اليوم تشير الى ان معدل مستوى النمو في العالم الذي يتوقعه صندوق النقد الدولي (4.4 في المئة) سيتخطى مستوى النمو في المنطقة العربية بحوالي 1.2 في المئة. وهذه أرقام لا تشجع على رغم احادية جانب معيار نمو الناتج المحلي.
فمن ناحية لا بد من الإشارة الى انه كان من المفترض أن تكون معدلات النمو عندنا تساوي المعدل العام للعالم، ومن ناحية أخرى لا يكفي الإشارة الى معدل النمو وحده لإدراك صحة التعافي واستدامة مستواها. فهذه الأرقام تجعلنا نجدد الدعوة لضرورة الاستعجال في التنوع الاقتصادي ليشمل قطاعات منتجة خالقة لفرص عمل مستدام وكريم لجيل الشباب الذي يدخل اليوم سوق العمل ويراه دون توقعاته وطموحاته.
أسباب للتفاؤل
انا أربط تفاؤلي بعدة عوامل بما فيها:
- قدرة الاقتصادات العربية على خلق فرص العمل التي تلبي طموحات جيل الشباب ليس فقط من ناحية استدامة فرص العمل ومستوى دخلها الكريم، ولكن ايضاً من ناحية انتاجيتها واتاحتها فرص الخلق والابداع للشباب كي يساهموا بما لديهم من مواهب وامكانات ووضعها في خدمة مجتمعاتهم واوطانهم والبشرية جمعاء.
- قدرة الاقتصادات العربية على أن “تثبت جذورها وتطلق أجنحتها”. وبتثبيت الجذور، أقصد انه على الاقتصادات العربية أن تستثمر في القطاعات التقليدية مثل الزراعة (أقله للمساهمة في امنها الغذائي) والصناعة (أقله للمساهمة في تكييف المنتجات الصناعية لجزء من احتياجاتها المحلي) والسياحة (أقله للمحافظة على التراث وتعزيز الهوية الوطنية مع الانفتاح على العالم في الوقت نفسه). أما في إطلاق الاجنحة، فأعني اعتماد أسس الاقتصاد الحديث من الاقتصاد الرقمي والذكاء الصناعي، والثورة الصناعية الرابعة من دون نسيان أهمية اعتماد الاستدامة البيئية للعملية الإنتاجية. ومع تثبيت الجذور وإطلاق الاجنحة لا بد ايضاً من التكامل مع الاقتصاد العالمي عن طريق معادلات تجارة دولية وتبادل دولي وترابط دولي عادل ومنتج ومنفتح يضمن حسن استعمال موارد البلاد الطبيعية، والبشرية، والابداعية، والإنتاجية.
- قدرة المجتمعات العربية على خلق أنظمة حماية اجتماعية عادلة وشاملة تمولها ضرائب عادلة وتصاعدية ومساهمات العاملين والمؤسسات على أسس شفافة وعادلة تخضع للمساءلة الدورية.
- قدرة المجتمعات العربية على إيجاد صيغة (ومؤسسات) لإدارة الشأن العام بطريقة اكثر شفافية واكثر عدالة حيث لا توجد فرصة للفساد وحيث توجد فرص ومؤسسات لجميع مكونات المجتمع ان تشارك في صنع مستقبلها وتؤثر في هذا المستقبل لما فيه مصلحة الجميع.
أيٌ من الدول الاعضاء في الاسكوا يمكن ان تتوقع لها تعافياً أسرع من غيرها؟
إن الدول الأعضاء التي تتمثل فيها الميزات التي ذكرتها كقاعدة للتفاؤل او التي تعمل على إيجاد هذه الميزات هي الدول التي أتوقع لها تعافياً أسرع. بالطبع الدول التي لديها إمكانيات مادية ولها اقتصادات قوية مرتبطة بالاقتصاد العالمي ارتباطاً صحياً ستتعافى قبل غيرها وهذا ينطبق على معظم دول الخليج. كما ان لمصر فرصة كبيرة لتعافٍ مهم نظراً للاستثمارات التي قامت بها في السنوات الماضية. ولكن الدول التي هي في نزاعات مسلحة او في مديونية كبيرة تجد نفسها مكبلة وغير قادرة على التعافي بشكل كافٍ.
ماذا تفعل الاسكوا لتشجيع دول المنطقة على التحول الى الاقتصاد الدائري؟
إن الإقتصاد الدائري هو وسيله لتحقيق التنميه المستدامه المنشودة وذلك بالعمل من اجل تحقيق ثلاثة أهداف، وهي (١) نمو مستدام (٢) الإدماج الاجتماعي و(٣) حماية البيئه. وهذا هو في صميم الهدف ١٢ من اهداف التنمية المستدامة. وتقوم الاسكوا بدعم زيادة نسبة الاقتصاد الدائري في الاقتصادات العربية بشراكات فعالة دولية، وعربية اقليمية، ومؤسسات وطنيه. وذلك ضمن أطر مختلفه، أبرزها:
- توفير البيانات والمعلومات وتحليلها ونشر المعرفة حول التقدم المحرز في تنفيذ الهدف ١٢.
- تطوير أدوات لمساعدة الدول في تقييم الفاقد من الغذاء.
- مساعده الدول في صياغة السياسات والتشريعات المبنية على الأدلة.
- تقوم الاسكوا بدراسات حول التحول في الطاقه باتباع إطار الاقتصاد الدائري للكربون.
- تعميم الخبرات والتكنولوجيات الناجحة وبناء القدرات من أجل مؤسسات فاعلة وطنية.
- توفير الدعم الفني والتقني، حيث نفذت الإسكوا مثلاً المبادرة الإقليمية لنشر تطبيقات الطاقة المتجدِّدة صغيرة السعة في المناطق الريفية في المنطقة العربية، والتي ترمي إلى تسريع التحول نحو الاقتصاد الدائري.
- توفير بيئة خصبة للتعاون بين الدول الاعضاء وتعزيز الشراكات.
لا شك أن التضخم هو التحدي الأكبر اليوم أمام جميع الدول. فكيف برأيكم ستوفق دول الاسكوا بين لجم معدلات التضخم ورفع أسعار الفائدة والوصول الى تحقيق نمو؟ وكيف برأيكم يمكن أن تعالج الاختلالات الكبيرة في موازناتها التي تأثرت بشكل كبير بسياسات التحفيز حيث كانت مرتفعة فيما الايرادات تقلصت؟
التضخم هو اليوم تحدٍ اقتصادي عالمي تحاول معظم الدول مواجهته بشتى الطرق. تأثير هذا التضخم على الدول العربية يعتمد على عدة عوامل بما فيها: ارتفاع مستوى الطلب، ارتفاع كلفة الإنتاج، مستوى الفائدة وتأثيره على قرارات الاستثمار، ثبات سعر صرف العملة المحلية، طبيعة وعمق ارتباط الاقتصاد المحلي بالاقتصاد الدولي، الخ. وهذه، بالإضافة الى عناصر أخرى، لا يسيطر عليها فريق واحد وبالتالي تحتاج لتعاون محلي واقليمي ودولي لمعالجتها، وهذا ممكن كلما ازدادت نسبة شفافية ونجاعة المؤسسات المسؤولة عن معالجة الجزء الذي يعنيها من هذه السلة المعقدة.
تربط دول الخليج موازناتها بأسعار النفط، وهي بالتالي تتوقع اداء جيداً للعام الحالي (حيث الايرادات النفطية المرتقبة مرتفعة جدا). ولكن برأيكم كيف يمكن الوصول الى ارقام مستدامة في وقت يمكن أن يؤثر اي تطور على سوق النفط على موازنات هذه الدول؟
في المدى القصير وبقدر ما يرتفع سعر النفط، سينعكس ذلك ايجابياً على دول الخليج. ولكننا شهدنا في أول مراحل الجائحة انخفاضاً هائلاً في الطلب على النفط وهبوط سعره لمستويات متدنية. هذا التغير لم يكن متوقعاً وهو ليس دون سوابق. وإن دلَّ على شيء فهو يدل على عدم استقرارية أسعار النفط. وهناك ايضاً عامل مؤثر على سعر النفط والطلب عليه وهو يتعلق بالتغيير المناخي والسياسات العامة التي تحاول تقليص انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون.
وبما ان استعمال النفط والغاز هو مصدر هام لهذه الانبعاثات فلا بد ان يأتي اليوم وان يؤثر هذا التوجه العام بشكل سلبي على الطلب على النفط وبالتالي انخفاض الموارد المالية للدول المصدرة للنفط، بما فيها دول الخليج. وعليه، فان الاقتصادات الخليجية التي تنوع اقتصاداتها وتقلص من اعتمادها على النفط كالمصدر المالي الأول للاستثمارات العامة تكون أكثر قدرة على إدارة أزمات تقلب الطلب على النفط واسعاره. وهذا توجه تنادي به الاسكوا وهو ايضاً توجه لعدد متزايد من الدول الخليجية مما يدعو الى التفاؤل.
مؤخراً، أعلنت دولة الامارات عن تدبير لفرض ضريبة على أرباح الشركات، هي الاولى من نوعها بالنسبة اليها بعد فرضها ضريبة على القيمة المضافة في العام 2018. برأيكم، هل سيكون لهذه الضريبة المتوقع تطبيقها في يونيو/حزيران، تأثير على جاذبية الاستثمارات الى الامارات؟
الشركات الخاصة معنية بشكل أساسي بزيادة ارباحها. وهي تتأثر في السياسات الضريبية للدول التي تنوي الاستثمار بها. ولكن السياسات الضريبية ليست العامل الوحيد المؤثر. إن العامل الأكثر أهمية هو الإنتاجية. فبقدر ما تكون عناصر الإنتاجية متواجدة في أي إطار اقتصادي يكون هذا الإطار أكثر استطاعة لجذب الاستثمارات. والإنتاجية هي المقدرة على زيادة كمية القيمة المضافة لأي منتج مما يتيح للشركة المستثمرة زيادة أرباحها في نهاية المطاف.
هناك اقتصادات تفرض ضرائب مرتفعة على الأرباح، ولكن رأس المال يبقي استثماراته فيها نظراً لارتفاع انتاجيتها. والإنتاجية تتأثر بعدة عوامل بما فيها القدرات البشرية على الإبداع والادارة وابتكار الحلول لتحديات الإنتاج والتوزيع والتسويق. وتتأثر أيضا في البنى التحتية المبنية والالكترونية، وفي التنافسية وشبكة الروابط والعلاقات والاتفاقيات في الاقتصاد المعني، هذا بالإضافة الى الاستقرار السياسي والشفافية وثقة المستثمر في القضاء المحلي وقدرة الإدارات المعنية تنفيذ قرارات القضاء في فض النزاعات. وفي الامارات العربية المتحددة الكثير من هذه العوامل، كما هو الحال في عدد متزايد من الدول العربية.