هل نحن أمام ركود اقتصادي محتّم أم لا؟ سؤال لا إجابة واضحة عنه في ظل تباين المواقف والآراء. لكن الواضح أن الاقتصاد العالمي لا يزال عليلاً، وأن الأدوية التي توصف له، إما أنها لا تكفي أو أنها نتيجة سوء تشخيص للداء.
فلنبدأ من الولايات المتحدة، حيث المشهد غير وردي أبداً. أزمة مصارف مستمرة رغم تطمينات المسؤولين بأن القطاع سليم ومتين؛ وتباطؤ اقتصادي حاد بنسبة 1.1 في المئة فقط من يناير/ كانون الثاني إلى مارس/آذار، فيما التضخم لا يزال مرتفعاً عن المستهدف له رغم تراجعاته، الأمر الذي دفع الاحتياطي الفدرالي إلى رفع معدّل الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس للمرة العاشرة على التوالي. ويبدو أن هناك توجهاً لتليين خطواته المستقبلية على خلفية مؤشرات التباطؤ الاقتصادي في الولايات المتحدة، وذلك بفعل إقرار الاحتياطي الفدرالي بأن سياسته المتشددة ترخي بثقلها على الاقتصاد وتتسبب باضطرابات في القطاع المصرفي.
ويضاف إلى هذا المشهد تفاقم احتمال تخلف الولايات المتحدة عن سداد مستحقّات دينها البالغة قيمته 31.4 تريليون دولار، في سابقة تاريخية من شأنها أن تحدث صدمة في الولايات المتّحدة والعالم على حدّ سواء.
إقرأ أيضاً: سقف الديون وعدم اليقين من الركود يلقي بظلاله على سوق النفط
ويرى الاقتصاديون أنه في حال تحقّق هذا السيناريو الكارثي، فإنّ الناتج المحلّي الإجمالي في الولايات المتحدة سيتقلّص بنسبة 6 في المئة، في حين ستخسر الأسواق المالية من جهتها 45 في المئة خلال الرُبع الثالث من العام.
ويعتبر هؤلاء أن المواجهة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول سقف الديون يمكن أن ترسل الاقتصاد الأميركي إلى الركود حتى لو لم تؤد المواجهة إلى التخلف عن السداد.
وفي تقرير رفعته أخيراً اللجنة الاستشارية لاقتراض الخزينة إلى وزيرة الخزانة جانيت يلين أن “العديد من مستثمري القطاع الخاص يتوقعون حدوث ركود في العام المقبل”، وأن استطلاعاً للاحتياطي الفدرالي لشهر مارس/آذار أظهر احتمالًا بنسبة 20 في المئة أن يبدأ الركود في النصف الأول من عام 2023 واحتمالًا بنسبة تزيد عن 50 في المئة أن يبدأ الركود قبل نهاية العام.
أما في أوروبا، فلا تزال الحكومات تصارع التضخم، فيما المصرف المركزي الاوروبي يواصل استخدام أداة رفع معدلات الفائدة في محاولة منه للسيطرة على التضخم. وكانت آخر خطوات المصرف المركزي رفع أسعار الفائدة 25 نقطة أساس أيضاً إلى 3.25 في المئة، وهو أمر كان متوقعاً بالطبع. وبالنسبة إلى “المركزي” قد تكون هناك حاجة لمزيد من عمليات التشديد النقدي بغية كبح التضخم.
ورغم أن التضخم الإجمالي في الاتحاد الأوروبي تراجع بشكل حاد عن قراءات تزيد عن عشرة في المئة سجلها في الخريف الماضي، إلا أن ضغوط الأسعار المصاحبة ما زالت تتراكم بما يشير إلى أن زيادة الأسعار قد تستقر عند مستوى أعلى مما يستهدفه المركزي الأوروبي إلا إذا رفع أسعار الفائدة أكثر.
“لن نتوقف… هذا واضح للغاية… نعلم أن لدينا المزيد من الأشواط لنقطعها”، قالت رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد.
وفي المقابل، فان الصين تغرد خارج السرب، فهي التي يعول عليها صندوق النقد الدولي لتكون رافعة النمو الاقتصادي العالمي لهذا العام.
لقد كانت بداية الاقتصاد الصيني قوية عام 2023، حيث انطلق المستهلكون في فورة إنفاق بعد انتهاء ثلاث سنوات من القيود الصارمة ضد الوباء.
ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.5 في المئة في الربع الأول من العام الماضي، ليتجاوز تقديرات النمو بنسبة 4 في المئة.
إلا أن الخوف من تفتت العالم بات عالياً في ظل المواجهة التجارية حامية الوطيس بين الولايات المتحدة والصين والتي تهدد العالم أجمع.
هل نحن أمام ركود؟
قد يكون الركود وارداً بقوة في توقعات الاقتصاد الأميركي، لكن السؤال الكبير هو متى.
الاحتياطي الفيدرالي قال إن الأزمة المصرفية قد تؤدي إلى ركود معتدل في وقت لاحق من هذا العام.
ويتوقع “بنك أوف أميركا” أن يكون الركود الأعمق في الولايات المتحدة مدعاة للقلق. يقول في مذكرة “إن المخاطر أكثر توازناً، حيث من ناحية لا تزال هناك فرصة لعدم الهبوط، ومن ناحية أخرى هناك فرصة لركود أعمق مما كنا نتوقع”.
في حين ينقسم أعضاء الرابطة الوطنية لاقتصاديات الأعمال في الولايات المتحدة بالتساوي حول ما إذا كان الركود قد يحدث في الأشهر الاثني عشر المقبلة.
لكن بالنسبة لرئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول، فإن فرص تمكن المصرف المركزي من تحدي التاريخ وإبطاء نمو الأسعار دون تحطيم الاقتصاد لا تزال ممكنة، بل محتملة – وقد يكاد عمل الاحتياطي الفدرالي على وشك الانتهاء.
ومن جهته، لا يزال الرئيس الاميركي جو بايدن يثق بأن الاحتياطي الفدرالي قادر على مواجة التضخم من دون أن يحدث ركوداً في الاقتصاد. وهو قال بعد التحرك الأخير للاحتياطي الفدرالي “ما زلت أعتقد أنه من الممكن أن تكون هذه المرة مختلفة حقًا… تجنب الركود ، في رأيي ، هو أكثر احتمالا من الركود”.
وفي أوروبا، نجحت معظم الاقتصادات بصعوبة في تجنب الركود هذا الشتاء، فيما تواجه القارة الآن المهمة الصعبة المتمثلة في الحفاظ على الانتعاش وهزيمة التضخم وحماية الاستقرار المالي. لا بل يمكن وصف الاداء الاقتصادي لمنطقة اليورو بأنه كان أكثر مرونة مما كان متوقعاً، حيث تمكن من تجنب ما كان قبل بضعة أشهر على الأرجح أفضل ركود متوقع على الإطلاق.
صندوق النقد الدولي يشدد من جهته على أن الحاجة لا تزال كبيرة إلى مزيد من الزيادات في أسعار الفائدة في منطقة اليورو لترويض التضخم، ويرى أن المصارف المركزية لا ينبغي أن توقف التشديد النقدي قبل الأوان خوفاً من أن تزيد معدلات الفائدة من المخاطر المالية. ويقر الصندوق في المقابل بأنه “من المحتمل أن يتطلب هذا ركودًا حادًا لإعادة التضخم إلى الهدف.”
وكان استطلاع لتوقعات كبار الاقتصاديين للعام 2023 أجراه المنتدى الاقتصاد العالمي كشف عن انقسام الآراء بشأن حدوث ركود عالمي هذا العام. إذ يتوقع 45 في المئة من الاقتصاديين دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود، فيما ترى نسبة مماثلة بأن الاقتصاد سينجح بتجنب سيناريو الركود.
ولكن ماذا عن الخليج؟
رغم ما يحصل عالمياً، إلا أن اقتصادات دول الخليج تبقى بعيدة عن مخاطر الركود العالمي، حيث أن توقعات صندوق النقد الدولي لا تزال إيجابية، وسط تأكيده أكثر من مرة أن فكرة قدرة اقتصادات منطقة الخليج العربي على السباحة بعكس التيار العالمي لا تزال واقعية.
في الختام، فإن التعابير التي يستخدمها الاقتصاديون عن أن الركود حتمي أو وشيك أو حتى غير مرجح” ترسم حالة عدم اليقين في استشراف ما يخبئه المستقبل للاقتصاد العالمي. فهل سنشهد على مشهدية جديدة تضع الاقتصاد العالمي في حالة لم نكن نتوقعها؟
أنقر هنا للاطلاع على المزيد من أخبار المصارف والتمويل.