وجهت جائحة كورونا ضربة قاسية لاقتصادات الدول حول العالم منذ انتشارها في العام ٢٠٢٠ ولليوم، وهو ما أجبر الحكومات على استخدام جميع مواردها لمكافحة الفيروس واحتوائه، وإعادة النظر في وسائل جديدة لتحفيز اقتصاداتها واعتماد حزم التحفيز.
لم تكن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (مينا)، بمنأى عن انتشار الوباء. فقد تضررت اقتصاداتها بشدة بحيث كان على كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إعادة تقييم تقديراتهم السابقة للناتج الإجمالي المحلي لهذه الدول، بغض النظر عما إذا كانت منتجة للنفط أو مستوردة له.
وتعتمد قدرة الدول العربية، التي تمتد على طول خارطة منطقة مينا، لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود في العام ٢٠٢٢ على نجاح حكوماتها في مواجهة موجة جديدة من الجائحة دون إعاقة هذا النمو.
ووفقا لتقديرات البنك الدولي، فقد وصلت التكلفة المباشرة لخسائر الدول العربية بسبب الوباء إلى ٢٠٠$ مليار.
”بشكل عام، فإنه من المقدر أن تصل التكلفة التراكمية الناجمة عن الوباء من حيث خسائر الناتج الإجمالي المحلي في منطقة مينا بحلول نهاية هذا العام إلى نحو ٢٠٠$ مليار،“ بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي في ٧ أكتوبر/تشرين أول ٢٠٢١.
وأضاف التقرير أن الناتج الإجمالي المحلي للمنطقة قد انكمش بنسبة ٣،٨٪ في العام ٢٠٢٠، ومن المتوقع أن يسجل نمواً بنسبة ٨٪ في العام ٢٠٢١.
وركّز تقرير البنك الدولي على نقاط الضعف في الأنظمة الصحية في منطقة مينا والتي برزت مع انتشار الوباء.
وأشار التقرير كذلك إلى أن أنظمة الصحة العامة في المنطقة لم تكن غير مستعدة لامتصاص صدمة الوباء فقط، بل و أن السلطات قد رسمت في السابق صورة مفرطة في التفاؤل في التقييمات الذاتية لاستعداد أنظمتها الصحية أيضاً.
“إن التأثير المدمر للوباء على النشاط الاقتصادي في المنطقة هو تذكير مؤلم بأن التنمية الاقتصادية والصحة العامة مرتبطان ارتباطاً وثيقا. كما أنه من المحزن عند التحقق من حالة الأنظمة الصحية في منطقة مينا، والتي كانت تعتبر متطورة نسبياً، ليتبين بعدها أنها تصدّعت في ظل الأزمة،“ بحسب فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
و يؤمن اثنان من أبرز الاقتصاديين في المنطقة، قامت مجلة إيكونومي ميدل إيست بمقابلتهما، أن الدول العربية، سواء كانت دولاً منتجة للنفط أم مستوردة له، ستحقق نمواً في الناتج الإجمالي المحلي في العام ٢٠٢٢، شرط أن تتخذ حكوماتها إجراءات لتحفيز جميع القطاعات.
وكانت الدول المصدرة للنفط في المنطقة قد تلقت ضربة مزدوجة عند انخفاض أسعار النفط كأثر سلبي مباشر للوباء. كما وأدت جائحة كورونا إلى اعتماد حزم تحفيز مالي واجتماعي.
”مع استمرار انخفاض أسعار النفط، تمكنت الدول التي لديها احتياطيات مالية كافية (بشكل رئيسي دول مجلس التعاون الخليجي ومصر إلى حد أقل) من ضخ المال لدعم الشرائح الضعيفة من السكان والقطاعات المتضررة،“ بحسب الدكتور ناصر السعيدي، أحد أبرز الاقتصاديين ومؤسس ورئيس شركة ناصر و شركاؤه.
ووفقاً للسعيدي، كان على العديد من الدول اللجوء للاستدانة من الأسواق الدولية للحصول على الدعم.
وأوضح السعيدي أن ”استمرت التحديات الرئيسية (في العام ٢٠٢١) وهي تتمثل في تباطؤ وتيرة التعافي وارتفاع نسب البطالة، ومستويات الفقر وعدم المساواة، وتضخم الأسعار بشكل عام وبخاصة أسعار المواد الغذائية.“
وتشهد الدول التي تعتمد على السياحة بشكل كبير، انتعاشاً اقتصادياً أبطأ من غيرها، في حين أن البطالة سجلت مستويات أعلى مقارنة بفترة ما قبل الوباء. وقد عانت بعض الفئات أكثر من غيرها، وتحديداً النساء والشباب، الذين يشغلون وظائف في قطاعات غير رسمية. وأصاب التضخم الدول المستوردة للنفط بشكل أقسى، حيث استمرت أسعار الغذاء عالمياً في الارتفاع.
وعلى الرغم من أن مصدّري النفط قد استفادوا من عودة أسعار النفط للارتفاع، وبخاصة مع موقف دول أوبك + بشأن زيادة مستويات الإنتاج بشكل تدريجي، شدد السعيدي على أن بعض الدول بحاجة إلى إجراء إصلاحات مالية واسعة النطاق في المدى القريب، مثل الكويت وسلطنة عمان، من أجل تحقيق استدامة مالية.
وأشار إلى أنه حتى بين منتجي النفط، فإن الدول التي تمكنت من توزيع اللقاحات بوتيرة أسرع كانت قادرة على إدارة التعافي بمعدل أسرع.
وتقوم حاليا القطاعات غير النفطية بدعم التعافي الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي. فمؤشرات الشراء تستمر بالتوسع مع ارتفاع معنويات المستهلكين والشركات. ونظراً للزيادة في أسعار النفط ، فقد تحسن كل من ميزانيّ المالية العامة والحساب الجاري في تلك الدول هذا العام. ومع ذلك، فقد ازداد الدين الحكومي لبعض دول مجلس التعاون الخليجي نسبة إلى الناتج الإجمالي المحلي، ومن المتوقع أن يظل أعلى مقارنة بفترة ما قبل الجائحة.
إضافة إلى ذلك، فإن اقرار حزم الإصلاحات القانونية لجذب الاستثمارات الأجنبية قد أفاد كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وعلى الرغم من حقيقة أن بعض الدول المستوردة للنفط في المنطقة تعتمد بشكل كبير على السياحة، وخاصة على السياح الأجانب، فقد شهدت بعض تلك الدول نمواً أفضل خلال الفترة الماضية مقارنةً بدول شهدت في التعافي الاقتصادي.
فمصر، على سبيل المثال، شهدت نموا في العام ٢٠٢٠ بعكس بقية دول المنطقة. ومما ساعدها على التخفيف من تأثير الوباء أنها كانت تنفذ إصلاحات ومن ضمنها برنامج لصندوق النقد الدولي على مدى السنوات القليلة الماضية.
أضف إلى ذلك موضوع تحويلات المغتربين لعائلاتهم في منطقة مينا.
”لقد كانت تحويلات المغتربين نعمة للعديد من الدول المصدرة للعمالة. فقد شهد عام ٢٠٢١ ارتفاعاً في مستويات التحويلات إلى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (وبخاصة إلى لبنان والأردن)،“ بحسب السعيدي.
من ناحية أخرى، فإن من شأن القيام بإصلاحات في سوق العمل —على سبيل المثال إزالة الحواجز التي تحول دون تنقل العمالة ، وتقليل أو إزالة الضرائب على الرواتب— أن يشكّل أمراً محورياً للتعافي على المدى القريب ولتحقيق النمو الشامل.
من جهته، قال الدكتور مروان بركات، كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث في بنك عودة، إن تداعيات انتشار جائحة كورونا إلى جانب تفاقم الأزمة المحلية أدت إلى انتكاسة كبيرة في الأوضاع الاقتصادية في البلدان المستوردة للنفط في منطقة مينا.
”فعلى الرغم من أننا نشهد تخفيفا لاجراءات الإغلاقات الصارمة في العديد من الدول، إلا أن هذه الإجراءات تسببت في تباطؤ اقتصادي كبير ولا تزال مؤثرة على نطاق واسع،“ ولكن بنسب متفاوتة بحيث كان الأثر الأسوأ على العائلات الفقيرة، مما عزز نسب اللا-مساواة المجتمعية.
وأضاف بركات أنه في ظل هذه الظروف، قام صندوق النقد الدولي بتقدير انكماش الناتج الإجمالي المحلي الحقيقي بنسبة ٠،٦٪ للدول المستوردة للنفط في منطقة مينا في العام ٢٠٢٠، مما أدى إلى تفاقم نقاط الضعف في هيكلية هذه الدول.
ويرى بركات أن البلدان المستوردة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعاني بالفعل من تحديات هيكلية طويلة الأمد، ومن ضمنها انخفاض نمو الناتج الإجمالي المحلي، وارتفاع نسب البطالة، وخاصة بين الشباب والنساء، و ضعف في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وارتفاع مستويات الديون.
”هذه الظروف التي كانت موجودة في السابق، والتي تعكس الظروف الهشة في العديد من دول المنطقة، قد ضاعفت من الآثار السلبية لجائحة كورونا،“ بحسب بركات.
وتشير توقعات البنك الدولي لنصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في المنطقة إلى نمو بنسبة ١،١٪ فقط في العام ٢٠٢١ بعد انخفاض بنسبة ٥،٤٪ في العام ٢٠٢٠. وبحلول نهاية العام ٢٠٢١، سيظل نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في المنطقة أقل من مستوى النمو لعام ٢٠١٩ البالغ ٤،٣٪.
كما وستواجه ١٣ دولة من أصل ١٦ في المنطقة مستويات معيشية أقل في العام ٢٠٢١ من مستويات ما قبل ظهور وباء كورونا.
في المقابل، فإن معدل نمو نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في العام ٢٠٢١ سيكون متفاوتا، حيث سيتراوح بين سالب ٩،٨٪ في لبنان الذي يمر حاليا بحالة ركود اقتصادي عميق، إلى ٤٪ في المغرب.
وسيعتمد التعافي على سرعة توزيع اللقاحات، خاصة مع ظهور سلسلة تحورات جديدة من الفيروس.
وبحسب البنك الدولي، فإنه توجد ”مخاطر إضافية قد تؤثر على النمو الاقتصادي بسبب حالة عدم اليقين السياسي في بعض الدول، ومدى سرعة انتعاش السياحة في دول أخرى.“
التوقعات للعام ٢٠٢٢
يتوقع السعيدي أن ستستمر اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في النمو في العام ٢٠٢٢ بين٪ و ٤،٥٪ بدعم من ارتفاع إنتاج النفط وارتفاع في أسعار المنتجات الهيدروكربونية.
وبالرغم من أنه يرى أن النمو في القطاع غير النفطي سيتراجع، لكنه سيظل مهما في عملية التعافي الاقتصادي خلال هذا العام.
لكن جزءاً مهما من عملية النمو ستعتمد على كيفية تكيف الدول مع متحور أوميكرون وتأثيره على السياحة الدولية.
فوفقاً لخبراء الاقتصاد، فإنّه من غير المحتمل أن تكون هناك أية إغلاقات واسعة النطاق كما حدث خلال الربع الثاني من عام ٢٠٢٠، ولكن من المرجح أن يؤدي التشدد في الاجراءات إلى السيطرة على الوضع.
عرض جوي لخزئان النفط والغاز مع مصفاة للنفط
”أتوقع أن الاجراءات والإصلاحات التي اتخذتها الإمارات والسعودية (أكبر اقتصادين في العالم العربي)، إلى جانب المشاريع الضخمة في السعودية وقطر، ستؤدي إلى معدلات نمو أعلى في القطاعات غير النفطية، مما سينعكس ايجابا، ولو بشكل غير مباشر، على البلدان المصدرة للعمالة وتلك المستوردة للنفط، بسبب زيادة التجارة وارتفاع احجام الاستثمارات الرأسمالية والأجنبية المباشرة وغير المباشرة،“ بحسب السعيدي.
وبالنسبة للدول المستوردة للنفط، يتوقع السعيدي أن يستمر التفاوت في معدلات النمو في العام ٢٠٢٠، خاصة بالنظر إلى الفجوات الكبيرة في وتيرة التطعيمات وتأثير المتحوّر الجديد. ويتوقع أن تتراوح نسب النمو في تلك الدول بين ٣،٥٪ و ٤،٥٪.
”مع ارتفاع معدلات التضخم وسط تراجعات كبيرة في الحسابات المالية العامة، تحتاج هذه الدول إلى وضع سياسات داعمة للشرائح الفقيرة والضعيفة من السكان،“ بحسب السعيدي، في إشارة إلى ضرورة تبني إجراءات تعزز من الحماية الاجتماعية والمساعدات النقدية للفقراء. وأضاف أنه سيتعين على الدول تبني سياسات تدعم القطاعات التي تأثرت بشكل مباشر من تطبيق القيود كالسياحة والضيافة.
وحذر سعيدي من أن ”الاحتياجات المتزايدة لتلك الدول للتمويل الخارجي ستجعلها أكثر عرضة لاجراءات التشدد المالي في الولايات المتحدة وأوروبا.“
من جانبه، توقع بركات أن تكون سنة ٢٠٢٢ أفضل نسبياً في ظل استمرار حملات التطعيم الواسعة في المنطقة وانفتاح اقتصادات الدول هنا، ومع البدء بتخفيف القيود.
”فمع استمرار التعافي الاقتصادي للشركاء التجاريين الرئيسيين للمنطقة، سيرتفع حجم الطلب الخارجي والتحويلات النقدية.“
وفي هذا السياق، يُقدّر صندوق النقد الدولي نمو الناتج الإجمالي المحلي الحقيقي للدول المستوردة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ ٣٪ في العام ٢٠٢١ وليستمر بالارتفاع ليصل إلى ٤،٣٪ في العام ٢٠٢٢.“
وفي الوقت نفسه، فإن العام ٢٠٢٢ سيشهد تحديات جديدة تتمثل بارتفاع التضخم بسبب نقص الإمدادات المرتبط بانتشار الوباء وارتفاع أسعار السلع الأساسية. كما وأن حالة عدم اليقين بشأن السرعة التي يمكن التغلب فيها على الوباء لا تزال تمثل مخاطر سلبية بالنسبة للدول المستوردة للنفط في المنطقة بشكل عام.
فبحسب روبرتا جاتي، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في البنك الدولي، ”أظهر العامان الماضيان أن مكافحة الوباء ضرورية ليس فقط لإنقاذ الأرواح ولكن لتسريع عملية الانتعاش الاقتصادي أيضاً، والتي أصبحت ضعيفة وغير متساوية عبر منطقة مينا.“
في المقابل، يقدم السعيدي توصيات هامة للدول العربية المصدرة والمستوردة للنفط على حد سواء.
”أولاً، وقبل كل شيء، يجب البدء بوقف تدريجي لسياسات الدعم التي بدأت مع انتشار الوباء. فدول مثل البحرين وسلطنة عمان، التي تعاني من بمستويات دين حكومي مرتفعة، تتوقع زيادة في الإيرادات غير النفطية خلال العام ٢٠٢٢، وبخاصة من تطبيق الضريبة على القيمة المضافة.“
وشدد السعيدي على أهمية مواصلة تنفيذ الإصلاحات في سوق العمل، بما في ذلك منح تأشيرات الإقامة طويلة الأجل، وجذب الخبرات، واجراءات المساواة بين الجنسين. كما ويجب ضبط أوضاع المالية العامة؛ أضف إلى ذلك إدخال إصلاحات هيكلية من أجل تحقيق تكامل اقتصادي اقليمي ودولي، وتوقيع اتفاقيات تجارية واستثمارية جديدة مع الصين والدول الآسيوية لزيادة التنويع الاقتصادي، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر.