بناء عالم أفضل

يمتلك البشر قوة هائلة فطرية ساعدتهم على البقاء والازدهار عبر العصور، ألا وهي قوة التعاون. وكما كتب المؤرخ الشهير “يوفال هراري”، فإن السبب وراء هيمنة البشر على الكوكب هو قدرتهم على التعاون بمرونة وبأعداد كبيرة.

وتعد هذه القدرة على التعاون والعمل معًا من أجل الصالح العام أكثر أهمية اليوم حيث يواجه الجنس البشري أزمة وجودية: تغير المناخ، والحروب، والتدهور البيئي، ونضوب الموارد، وتفاقم أوجه انعدام المساواة الاجتماعية. وهذه كلها مشكلات معقدة وملتفة تهدد بقاء جنسنا البشري ذاته، وهي مشكلات لا يسعنا أن نأمل في حلها دون إشراك جميع الأطراف المعنية والاستفادة من جميع الموارد والخبرات المتاحة لبناء مستقبل مستدام اجتماعيًا.

المستقبل المستدام اجتماعيًا هو المستقبل الذي يكفل رفاه الأجيال الحالية والمستقبلية من خلال مواجهة التحديات الاجتماعية، مثل الفقر وعدم المساواة والإقصاء، وهو المستقبل الذي يحصل فيه جميع أفراد المجتمع على الاحتياجات الأساسية والموارد والفرص. وفي حين أن هذا قد يبدو وكأنه يوتوبيا أو مدينة فاضلة غير قابلة للتحقيق، يمكننا ويتعين علينا استخدام سلاح قوي في ترسانتنا لتحقيق ذلك؛ سلاح “الشراكات”.

الشراكة من أجل التأثير

إذا ما تم الأمر على نحو صحيح، يمكن للشراكات أن تحقق نتائج أكبر بكثير من مجموع أجزائها؛ نتائج لا يمكن لأي طرف أن يحققها بمفرده. ويحدد “ويليام ماكاسكيل”، في كتابه المؤثر Doing Good Better، المفاهيم والمقاييس الأساسية التي يمكن استخدامها لاستكشاف وتقييم الشراكات والقضايا الاجتماعية التي تعالجها.

إننا في «كي أف آي غلوبال»، نؤمن بشدة أن الثقافة المالية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتخفيف من حدة الفقر وعدم المساواة والإقصاء المالي، وهو تعريف الاستدامة الاجتماعية ذاته.

نحن نقيم شراكات مع كيانات مؤسسية لدفع الاستدامة الاجتماعية من خلال مبادرة لتعزيز الثقافة المالية لجيل الشباب. ومن شأن المقاييس الرئيسية التي حددها “ماكاسكيل” أن تساعد شركائنا على تقييم وتحديد ما إذا كنا مناسبين لهم في سعيهم لتحقيق الاستدامة الاجتماعية.

الحجم

من المهم هنا مراعاة حجم المشكلة ومدى تأثيرها على حياة الأشخاص على المدى القصير والطويل.

تسجل مسألة الثقافة المالية بين الشباب معدلًا عاليًا على هذا المقياس، وهي تمثل مشكلة ضخمة تؤثر على جميع الشباب تقريبًا، نظرًا لأن هذه المهارة تحديدًا لا يتناولها نظام التعليم الحالي. وتؤثر معرفة هذه المهارة على كل جانب من جوانب حياتهم، بداية من الوظائف التي يشغلونها والمسار الوظيفي الذي يختارونه، وصولًا إلى مقدار ما يدخرونه، وأين يضعون استثماراتهم، ومتى يتقاعدون، والقائمة تطول.

ويؤدي الافتقار إلى هذه المهارة البالغة الأهمية إلى قرارات وسلوكيات مالية سيئة، مثل الادخار غير الكافي، والإنفاق الطائش، والإفراط في استخدام بطاقات الائتمان، وعدم الاستعداد للتقاعد، مما يؤثر بوضوح على حياتهم على المدى القصير والطويل.

الإهمال

هذا المقياس يحلل عدد الموارد التي يجري تخصيصها بالفعل لمعالجة هذه المشكلة. وما مدى جودة الموارد التي تُخصص حاليًا لهذه المشكلة؟

تحتل مسألة الثقافة المالية بين الشباب معدلًا عاليًا على مقياس الإهمال. ذلك أنه لا يجري تخصيص العديد من الكيانات أو الموارد لمعالجة هذه المشكلة. فالمدارس لا تعلم هذا، وحتى في دول مثل المملكة المتحدة، حيث تُدرَّس الثقافة المالية بتكليف من الحكومة، تفشل المدارس في القيام بذلك بسبب نقص موارد التدريس والتدريب. كما أن معظم أولياء الأمور ليسوا مؤهلين لتعليمها لأبنائهم. ولقد اقتحم عدد من مؤسسات التكنولوجيا المالية وغيرها من المؤسسات المالية هذا المجال، ولكن هذا ليس غايتها الأساسية، فعادةً ما يخفي ذلك نشاطًا تسويقيًا مقنعًا. وهناك أيضًا مسألة تضارب المصالح، كما يعارض معظم أولياء الأمور والمدارس فكرة دخول المؤسسات المالية إلى المدارس لتعليم الطلاب كيفية إدارة الأموال.

قابلية المعالجة

هذا المقياس يتعلق بمدى سهولة إحراز تقدم في حل هذه المشكلة. هل توجد تدخلات لإحراز تقدم في هذا الشأن، وما مدى قوة الأدلة وراء تلك التدخلات؟ هل تتوقع أن تكون قادرًا على اكتشاف طرق جديدة واعدة لإحراز تقدم؟

تحتل مسألة الثقافة المالية معدلًا عاليًا على هذا المقياس. ومن السهل إلى حد ما إحراز تقدم في معالجة هذه المشكلة، وهناك الكثير من الأدلة لدعم فعالية النوع الصحيح من برامج التوعية المالية. والطلاب يحصلون على دورة تدريبية في الثقافة المالية هم أكثر ميلًا للادخار، وتقل احتمالية إصابتهم بهوس الشراء، كما تقل احتمالية بلوغهم الحدود القصوى لبطاقات الائتمان الخاصة بهم. وكشفت دراسة أجراها البنك الدولي أن البلدان التي لديها مستويات عالية من الثقافة المالية تمتلك مستويات أعلى من المدخرات والاستثمار والاستقرار المالي والنمو الاقتصادي.

ويتمثل مفتاح ضمان قابلية معالجة هذه المسألة في جعل تدخلات التوعية المالية هذه تفاعلية وجذابة، يتولى تيسيرها خبراء مدربون يتمتعون بالخبرة والكفاءة والأهم من ذلك التعاطف في التعامل مع الطلاب.

ملاءمة الشركة

من المهم هنا دراسة مدى احتمالية أن تُحدث الشركة فرقًا كبيرًا في هذا المجال، بالنظر إلى المهارات والموارد والمعرفة والصلات التي تمتلكها.

اعتبارات مثل المدة التي قضتها الشركة في العمل، ومدى مصداقيتها، والجوائز التي ربما فازت بها في هذا المجال، ومدى الاستفادة من علاقاتها في إحداث تأثير هائل بطريقة مبتكرة وموحدة وقابلة للتوسع.

مستقبل مستدام اجتماعيًا

إننا بحاجة إلى مضاعفة جهودنا لبناء شراكات قوية ومتآزرة تؤثر بشكل ملموس على القضايا الاجتماعية الملحة في عصرنا. ومن شأن مقاييس الحجم، والإهمال، والقابلية للعلاج، وملاءمة الشركة أن تساعد الشركات على اختيار القضية الاجتماعية التي تلتزم بها، وكذلك المنظمة التي تعمل معها لإحداث هذا التغيير المنشود.

ولا يسعنا أن نأمل في بناء عالم أفضل سوى بالاعتماد على هذه القوة الهائلة للتعاون.